فصل: الإسراف في العقوبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استيلاءٌ

التعريف

1 - من معاني الاستيلاء لغةً‏:‏ وضع اليد على الشّيء، والغلبة عليه، والتّمكّن منه‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ إثبات اليد على المحلّ، أو الاقتدار على المحلّ حالاً ومآلاً، أو القهر والغلبة ولو حكماً‏.‏ وأمّا الفعل المادّيّ الّذي يتحقّق به الاستيلاء فإنّه يختلف تبعاً للأشياء والأشخاص، أي أنّ مدار الاستيلاء على العرف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحيازة‏:‏

2 - الحيازة والحوز لغةً‏:‏ الجمع والضّمّ‏.‏ وشرعاً‏:‏ وضع اليد على الشّيء والاستيلاء عليه، كما قال الدّردير‏.‏

ب - الغصب‏:‏

3 - الغصب لغةً‏:‏ أخذ الشّيء قهراً وظلماً‏.‏ وشرعاً‏:‏ الاستيلاء على حقّ الغير بلا حقٍّ‏.‏ فالغصب أخصّ من الاستيلاء، لأنّ الاستيلاء يكون بحقٍّ وبغير حقٍّ‏.‏

ج - وضع اليد‏:‏

4 - يستفاد من كلام الفقهاء أنّ وضع اليد هو‏:‏ الاستيلاء على الشّيء بالحيازة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إنّ وضع اليد والتّصرّف من أقوى ما يستدلّ به على الملك، ولذا تصحّ الشّهادة بأنّه ملكه، وليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحدٍ إلاّ بحقٍّ ثابتٍ معروفٍ، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ‏.‏

د - الغنيمة‏:‏

5 - الاغتنام‏:‏ أخذ الغنيمة، وهي كما قال أبو عبيدٍ‏:‏ ما أخذ من أهل العدوّ عنوةً فالاغتنام أخصّ من الاستيلاء‏.‏

هـ- الإحراز‏:‏

6 – الإحراز لغةً‏:‏ جعل الشّيء في الحرز، وهو الموضع الحصين الّذي يحفظ فيه الشّيء‏.‏ وفي الشّرع‏:‏ حفظ المال فيما يحفظ فيه عادةً، كالدّار والخيمة، أو بالشّخص نفسه‏.‏

وبين الإحراز والاستيلاء عمومٌ وخصوصٌ‏.‏ ولذا كان الإحراز شرطاً لترتّب الملك على الاستيلاء في بعض الصّور، فينفرد الاستيلاء في مثل استيلاء الكفّار على أموال المسلمين في دار الإسلام، فليس ذلك إحرازاً‏.‏

صفة الاستيلاء‏:‏ حكمه التّكليفي

7 - يختلف حكم الاستيلاء بحسب الشّيء المستولى عليه، وتبعاً لكيفيّة الاستيلاء، فالأصل بالنّسبة للمال المعصوم المملوك للغير أنّ الاستيلاء عليه محرّمٌ، إلاّ إذا كان مستنداً إلى طريقٍ مشروعٍ‏.‏ أمّا المال غير المعصوم فإنّه يجوز الاستيلاء عليه وإن كان مملوكاً، وكذا المال المباح فإنّه يملك بالاستيلاء عليه على ما سيأتي بيانه‏.‏

أثر الاستيلاء في الملك والتّملّك

8 - الاستيلاء يفيد الملك إذا ورد على مالٍ مباحٍ غير مملوكٍ لأحدٍ، على تفصيلٍ يأتي بيانه، أو كان في حكم المباح لعدم العصمة، بأن كان مالاً للحربيّين في دار الحرب‏.‏ وهذا إمّا أن يكون منقولاً، أو عقاراً، ولكلٍّ حكمه الخاصّ‏.‏

9 - فإن كان المال الّذي تمّ الاستيلاء عليه من الحربيّين منقولاً أخذ بالقهر والغلبة، فإنّ الملك لا يتحقّق فيه إلاّ بالقسمة بين الغانمين، فالملك موقوفٌ عليها‏.‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة أنّ الملك يثبت بنفس الاستيلاء بدار الحرب بعد الفراغ من القتال، لزوال ملك الكفّار بالاستيلاء، ووجود مقتضى التّمليك، وهو انقضاء القتال، وفي قولٍ أنّ الملك موقوفٌ، فإن سلّمت الغنيمة إلى القسمة بأنّ ملكهم على الشّيوع‏.‏ وبالقسمة - ولو في دار الحرب - ثبت الملك، ويستقرّ عند جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ وبهذا قال الأوزاعيّ وابن المنذر وأبو ثورٍ، لما روى أبو إسحاق الفزاريّ قال‏:‏ قلت للأوزاعيّ‏:‏ هل قسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنائم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ لا أعلمه، إنّما كان النّاس يتّبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوّهم،«ولم يقفل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن غزاةٍ قطّ، أصاب فيها غنيمةً إلاّ خمّسه وقسّمه من قبل أن يقفل»، ولأنّ الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء، فصحّت قسمتها كما لو أحرزت بدار الإسلام، لأنّ سبب الملك الاستيلاء التّامّ وقد وجد، فإنّنا أثبتنا أيدينا عليها حقيقةً، وقهرناهم ونفيناهم عنها، والاستيلاء يدلّ على حاجة المستولي فيثبت الملك كالمباحات‏.‏

10 - لكنّ الحنفيّة يرون أنّ الملك لا يثبت للغزاة بدار الحرب بالاستيلاء، ولكن ينعقد سبب الملك فيها، على أن يصير علّةً عند الإحراز بدار الإسلام، وعلى هذا فلم يعتبروا قسمة الغنائم في دار الحرب قسمة تمليكٍ، وإنّما هي قسمة حملٍ، لأنّ ملك الكفّار قائمٌ، إذ الملك لا يتمّ عليها إلاّ بالاستيلاء التّامّ، ولا يحصل إلاّ بإحرازها في دار الإسلام، وما دام الغزاة في دار الحرب فاسترداد الكفّار ليس بنادرٍ بل هو محتملٌ‏.‏

11 - وأمّا إن كان المال المستولى عليه من الكفّار بالقهر والغلبة أرضاً، فإنّ للفقهاء ثلاثة اتّجاهاتٍ‏:‏ فالحنفيّة، والحنابلة في روايةٍ - عليها المذهب عندهم - صرّحوا بأنّ الإمام مخيّرٌ بين أن يقسمها أو يتركها في يد أهلها بالخراج‏.‏

وقال المالكيّة في المشهور عندهم‏:‏ إنّها لا تقسم، ويرصد خراجها في مصالح المسلمين، إلاّ أن يرى الإمام في وقتٍ أنّ المصلحة تقتضي القسمة، والقول بأنّها تصير وقفاً بالاستيلاء، ويرصد خراجها لصالح المسلمين روايةٌ عند الحنابلة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّها تملك للفاتحين كالمنقول‏.‏ وهو روايةٌ عند الحنابلة، وبه قال ابن رشدٍ المالكيّ، وهو قولٌ عند المالكيّة يقابل المشهور، وقالوا‏:‏ إنّ الاستيلاء الحكميّ كالحقيقيّ في ترتّب الملك على الاستيلاء‏.‏

12 أمّا الأرض الّتي استولى عليها المسلمون بعد جلاء الكفّار عنها خوفاً، فإنّها تصير بالاستيلاء عليها وقفاً لمصالح المسلمين‏.‏ وأمّا الأرض الّتي استولى عليها المسلمون صلحاً فإنّها تبقى في أيدي أصحابها، إذا كان الصّلح على أن تبقى في ملكيّتهم، ويوضع عليها الخراج‏.‏ أمّا إذا كان الصّلح على أن يتملّكها المسلمون فإنّها تكون وقفاً لمصالح المسلمين‏.‏

13 - وأمّا إذا كان الاستيلاء على مالٍ معصومٍ مملوكٍ للغير بطريقٍ من طرق التّملّك، فإنّ الاستيلاء وحده لا يكسب ملكيّةً، وإنّما حدوث التّملّك يكون بالسّبب المشروع الّذي يقتضيه كالشّراء والهبة، وحقّ الاستيلاء في هذه الحالة يكون أثراً ونتيجةً للتّملّك وليس سبباً له‏.‏ وأمّا إذا كان الاستيلاء عدواناً، فإنّه لا يفيد ملكاً‏.‏

وبيان ذلك في مصطلحات ‏(‏غصبٌ‏)‏ ‏(‏وسرقةٌ‏)‏‏.‏

14 - واستيلاء الحاكم على ما يحتكره التّجّار له أثرٌ في إزالة ملكيّتهم، إذ للحاكم رفع يد المحتكرين عمّا احتكروه وبيعه للنّاس جبراً، والثّمن لمالكيه، على خلافٍ وتفصيلٍ مبيّنٍ في مصطلح ‏(‏احتكارٌ‏)‏‏.‏ ومن ذلك ما قالوه من استيلاء الحاكم على الفائض من الأقوات بالقيمة لإمداد جهةٍ انقطع عنها القوت أو إمداد جنوده، لأنّ للإمام أن يخرج ذلك إذا كان بحقٍّ ثابتٍ معروفٍ كما يفهم من حاشية ابن عابدين، والاستيلاء على عمل الصّانع إذا احتاج النّاس إلى صناعة طائفةٍ كالفلاحة والنّساجة، ومدار الاستيلاء في الصّورتين على العرف‏.‏

استيلاء الكفّار الحربيّين على أموال المسلمين

15 - اختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة أقوالٍ مشهورةٍ‏:‏

1 - إنّ ما استردّه المسلمون من أيدي الحربيّين فهو لأربابه، بناءً على أنّ الكفّار لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها أصلاً، وممّن قال بهذا الشّافعيّة، وأبو ثورٍ وأبو الخطّاب من الحنابلة، واحتجّوا بما رواه عمران بن حصينٍ أنّه «أسرت امرأةٌ من الأنصار، وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت مع نعمها ذات ليلةٍ من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتّى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ‏.‏ قال‏:‏ وناقةٌ منوّقةٌ‏.‏ فقعدت في عجزها ثمّ زجرتها فانطلقت، ونذروا بها، فطلبوها فأعجزتهم‏.‏ قال‏:‏ ونذرت للّه إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها، فلمّا قدمت المدينة رآها النّاس، فقالوا‏:‏ العضباء ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ إنّها نذرت إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها‏.‏ فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال‏:‏ سبحان اللّه، بئسما جزتها، نذرت للّه إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها لا وفاء لنذرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يملك العبد» وفي رواية ابن حجرٍ «لا نذر في معصية اللّه»‏.‏

2- إنّ ما غنمه الكفّار يملكونه بمجرّد الاستيلاء عليه، سواءٌ أحرزوه بدارهم أو لم يحرزوه، وهو روايةٌ عن أحمد‏.‏ ووجهه أنّ القهر سببٌ يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم، وعلى هذا إذا استردّ المسلمون ذلك كان غنيمةً سواءٌ بعد الإحراز أو قبله‏.‏

3- إنّ الكفّار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها شرط إحرازها بدارهم، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة وروايةٌ عن أحمد، ودليله «قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة‏:‏ وهل ترك لنا عقيلٌ من رباعٍ» ولأنّ العصمة تزول بالإحراز بدار الحرب، إذ المالك لا يمكنه الانتفاع به إلاّ بعد الدّخول لما فيه من مخاطرةٍ، إذ الدّار دارهم، فإذا زال معنى الملك أو ما شرع له الملك يزول الملك ضرورةً، فباسترداد المسلمين لذلك يكون غنيمةً‏.‏

استيلاء الكفّار على بلدٍ إسلاميٍّ

16 - إذا استولى الكفّار على بلدٍ إسلاميٍّ فهل تصير دار حربٍ أم تبقى كما هي دار إسلامٍ‏؟‏ في هذه المسألة خلافٌ وتفصيلٌ، فذهب أبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ دار الإسلام تصير دار كفرٍ بشرطٍ واحدٍ، وهو إظهار أحكام الكفر‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏دار الإسلام ودار الحرب‏)‏‏.‏

إسلام الحربيّ بعد استيلائه على مال المسلم

17 - إذا استولى الحربيّ على مال مسلمٍ بالقهر والغلبة، وحكم بملكيّته له شرعاً، ثمّ دخل إلى دار الإسلام مسلماً وهو في يده، فهو له، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسلم على شيءٍ فهو له» ولأنّ إسلامه يعصم دمه وماله لخبر الصّحيحين أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا‏:‏ لا إله إلاّ اللّه، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه، وحسابه على اللّه»‏.‏ واستثنى الجمهور من ذلك استيلاءه على الحرّ المسلم فلا يقرّ عليه‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ كلّ ملكٍ لا يجوز فيه البيع فإنّ أهل الحرب لا يملكونه إذا أصابوه وأسلموا عليه، وصرّح المالكيّة بأنّ مثله‏:‏ الوقف المحقّق، والمسروق في فترة عهده، واللّقطة، والدّين في ذمّته، الوديعة، وما استأجره من المسلمين حال كفره فلا يقرّ على شيءٍ من ذلك‏.‏ وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك‏.‏

18 - وإذا استولى الكافر الحربيّ على مال مسلمٍ بطريق السّرقة، أو الاغتصاب من حربيٍّ آخر، ثمّ أسلم ودخل دار الإسلام وهو في يده، فهو له أيضاً عند جمهور الفقهاء، لأنّه استولى عليه حال كفره فأشبه ما استولى عليه بقهره للمسلمين‏.‏ وعن أحمد أنّ صاحبه أحقّ به بالقيمة‏.‏

الاستيلاء على المال المباح

19 - المال المباح كلّ ما خلقه اللّه لينتفع به النّاس على وجهٍ معتادٍ، وليس في حيازة أحدٍ مع إمكان حيازته، ويكون حيواناً‏:‏ برّيّاً أو بحريّاً، ويكون نباتاً‏:‏ حشائش وأعشاباً وحطباً، ويكون جماداً‏:‏ أرضاً مواتاً وركازاً، كما يكون ماءً وهواءً، ومن حقّ أيّ إنسانٍ أن يتملّك منه، ويكون ذلك بالاستيلاء عليه، ويتحقّق الاستيلاء وتستقرّ الملكيّة إذا كان الاستيلاء بفعلٍ يؤدّي إلى التّمكّن من وضع اليد‏.‏ روى أبو داود عن أمّ جندبٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو له» وعن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له» وفي روايةٍ‏:‏ «من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له» وإذا ثبت هذا بالنّسبة للعقار المباح فهو بالنّسبة للمنقول من المباحات أولى، لظهور الاستئثار به ظهوراً لا يكون في العقار‏.‏

ولا يحدّ من سلطان النّاس في الاستيلاء على المال المباح إلاّ القواعد العامّة لتنظيم الانتفاع ومنع الضّرر‏.‏

20 - ولكلّ نوعٍ من الأموال المباحة طريقٌ للاستيلاء عليه، فالاستيلاء على الماء المباح والرّكاز يكون بالحوز والكشف، والاستيلاء على الكلأ والعشب يكون بالحشّ، والاستيلاء على حيوان البرّ والبحر يكون بالاصطياد، والاستيلاء على الأرض الموات يكون بالإحياء، وبإقطاع التّمليك‏.‏

تنوّع الاستيلاء

21 - الاستيلاء يكون حقيقيّاً بوضع اليد على الشّيء المباح فعلاً، وهذا لا يحتاج إلى نيّةٍ وقصدٍ، صرّح بذلك الشّافعيّة، قال الرّمليّ في نهاية المحتاج‏:‏ يملك الصّيد بضبطه باليد، لأنّه مباحٌ، فملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات، سواءٌ أقصد بذلك ملكه أم لا، حتّى لو أخذه لينظر إليه ملكه‏.‏ ويفهم ذلك من كلام سائر المذاهب، وإنّما تثبت بالاستيلاء الحقيقيّ الملكيّة مستقرّةٌ، وكذلك يكون الاستيلاء حقيقيّاً إذا كان بآلةٍ أعدّت لذلك، وكان واضعها قريباً منها، بحيث لو مدّ يده إليها لأمسك الصّيد، لأنّه ليس بممتنعٍ عليه‏.‏

ومن هذا لو نصب شبكةً للصّيد فوقع فيها طائرٌ وامتنع عليه الطّيران، أو أغرى كلباً معلّماً فاصطاد حيواناً، فإنّ من نصب الشّبكة ومن أغرى الكلب يتملّك الصّيد، سواءٌ أكان هو مالك الشّبكة والكلب أم كان المالك غيره‏.‏

22 - ويكون الاستيلاء حكميّاً، وهو ما كان بواسطة الآلة وحدها الّتي تهيّئ المباح لوضع اليد عليه، ولم يكن واضعها قريباً منها‏.‏ كحفرةٍ في جورة المنتفع بالأرض أو مالكها تجمّع فيها ماء المطر، فلا بدّ لتملّك ما تجمّع فيها من ماءٍ من وجود القصد، أمّا من غير قصدٍ فإنّ الملكيّة تثبت غير مستقرّةٍ، ولا تستقرّ إلاّ بصيرورة الاستيلاء حقيقيّاً، وهذا باتّفاق المذاهب‏.‏

23 - وقد سئل الحلوانيّ الحنفيّ عمّن علّق كوزه، أو وضعه في سطحه، فأمطر السّحاب وامتلأ الكوز من المطر، فجاء إنسانٌ وأخذ ذلك الكوز مع الماء، هل لصاحب الكوز أن يستردّه مع الماء‏؟‏ فقال‏:‏ لا إشكال في استرداد الكوز، وأمّا الماء فإن كان قد أعدّ الكوز لذلك حقّ له أن يستردّه، وإن لم يعدّه لذلك لم يستردّه‏.‏

ولو التجأ صيدٌ إلى أرض رجلٍ أو إلى داره، فلا يعدّ ذلك استيلاءً من صاحب الأرض أو الدّار، لأنّهما لم يعدّا للاصطياد، لأنّه لم يحدث منه فعل الاستيلاء، أمّا إذا ردّ عليه صاحب الدّار الباب بنيّة أخذه ملكه، لتحقّق الاستيلاء عليه بفعله مع إمكان أخذه‏.‏

ومن نصب فسطاطاً فالتجأ إليه صيدٌ لم يملك، لأنّ الفسطاط لم يكن آلة صيدٍ، وما كان نصبه بقصد الاستيلاء على الصّيد، وكذا لو نصب شبكةً للتّجفيف فتعلّق بها صيدٌ ولم يكن من علّق الشّبكة حاضراً بالقرب منها فإنّه لا يملكه، إذ القصد مرعيٌّ في التّملّك، ومع هذا فإنّه أحقّ به من غيره إن حضر وهو معلّقٌ بالشّبكة‏.‏

وتفصيل كلّ ذلك في مصطلح ‏(‏اصطيادٌ‏)‏‏.‏

استيلادٌ

التعريف

1 - الاستيلاد لغةً‏:‏ مصدر استولد الرّجل المرأة إذا أحبلها، سواءٌ أكانت حرّةً أم أمةً‏.‏ واصطلاحاً كما عرّفه الحنفيّة‏:‏ تصيير الجارية أمّ ولدٍ‏.‏ وعرّف غيرهم أمّ الولد بتعاريف منها‏:‏ قول ابن قدامة‏:‏ إنّها الأمة الّتي ولدت من سيّدها في ملكه‏.‏ فأمّ الولد نوعٌ من أنواع الرّقيق الّذي له في الفقه أحكامٌ خاصّةٌ من حيث نشوءه وما يتلوه، وللتّفصيل ينظر ‏(‏استرقاقٌ ورقٌّ‏)‏، والكلام هنا منحصرٌ فيما تنفرد به أمّ الولد عن سائر الرّقيق من أحكامٍ خاصّةٍ، وكذلك أحكام ولدها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

العتق‏:‏

2 - من معاني العتق في اللّغة‏:‏ السّراح والاستقلال‏.‏

وشرعاً‏:‏ رفع ملك الآدميّين عن آدميٍّ مطلقاً تقرّباً إلى اللّه تعالى، فهو يجتمع مع الاستيلاد في أنّ كلاًّ منهما سببٌ للحرّيّة، غير أنّ العتق قد يكون منجزاً، أمّا أمّ الولد فتصير حرّةً بعد موت سيّدها غالباً، إذ يجوز عتقها وهي أمّ ولدٍ حال حياة السّيّد‏.‏

التّدبير‏:‏

3 - التّدبير‏:‏ تعليق العتق بالموت، كأن يقول السّيّد لعبده أو أمته‏:‏ أنت حرٌّ أو أنت حرّةٌ دبر موتي أي بعد موتي أو ما شابه ذلك من الألفاظ، فهو يجتمع مع الاستيلاد في أنّ كلاًّ منهما سببٌ للحرّيّة بعد الموت، لكنّ التّدبير بالقول، والاستيلاد بالفعل‏.‏

الكتابة‏:‏

4 - الكتابة والمكاتبة‏:‏ بيع السّيّد نفس رقيقه منه بمالٍ في ذمّته، فيعتق العبد أو الأمة بعد أداء ما كوتب عليه، فكلٌّ من الاستيلاد والمكاتبة سببٌ للحرّيّة إلاّ أنّ المكاتبة عقدٌ بعوضٍ‏.‏ التّسرّي‏:‏

5 - التّسرّي إعداد الرّجل أمته لأن تكون موطوءةً، فالفرق بينه وبين الاستيلاد حصول الولادة‏.‏

صفة الاستيلاد، وحكمه التّشريعيّ، وحكمة التّشريع

6 - قال صاحب المغني‏:‏ لا خلاف في إباحة التّسرّي ووطء الإماء، لقول اللّه تعالى ‏{‏والّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنّهم غير ملومين‏}‏ وقد كانت مارية القبطيّة أمّ ولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث ولدت له إبراهيم، وكانت هاجر أمّ إسماعيل سرّيّة سيّدنا إبراهيم، وكان لعمر بن الخطّاب أمّهات أولادٍ، وكذلك لعليّ بن أبي طالبٍ، ولكثيرٍ من الصّحابة رضي الله عنهم، وكان عليٌّ زين العابدين بن الحسين، والقاسم بن محمّد بن أبي بكرٍ، وسالم بن عبد اللّه بن عمر، من أمّهات الأولاد، وروي أنّ النّاس لم يكونوا يرغبون في أمّهات الأولاد حتّى ولد هؤلاء الثّلاثة من أمّهات الأولاد، فرغب النّاس فيهنّ‏.‏ ويقصد بالاستيلاد الولد، فقد يرغب الشّخص في الأولاد ولا يتيسّر له ذلك من الحرائر، وأباح اللّه له أن يتسرّى من تلد له‏.‏ ومن تحمل من سيّدها تعتق عليه بموته من كلّ ماله تبعاً لولدها‏.‏ والأصل في ذلك قول النّبيّ «أيّما أمةٍ ولدت من سيّدها فهي حرّةٌ عن دبرٍ منه»‏.‏ والاستيلاد وسيلةٌ للعتق، والعتق من أعظم القرب‏.‏

حكم ولد المستولدة من غير سيّدها

7 - إذا صارت الأمة أمّ ولدٍ بولادتها من سيّدها، ثمّ ولدت من غيره، كان لذلك الولد حكم أمّه في العتق بموت سيّدها، وغيره من أحكامها، وأمّا أولادها الّذين ولدتهم قبل ثبوت حكم الاستيلاد لها فلا يتّبعونها، ولا يكون لهم حكم أمّهم‏.‏

ما يتحقّق به الاستيلاد وشرائطه

8 - يتحقّق الاستيلاد ‏(‏بمعنى أن تصير الجارية أمّ ولدٍ‏)‏ بولادة الولد الحيّ أو الميّت، لأنّ الميّت ولدٌ، به تتعلّق أحكام الولادة فتنقضي به العدّة، وتصير المرأة نفساء، وكذا إذا أسقطت سقطاً مستبيناً خلقه أو بعض خلقه وأقرّ السّيّد بوطئها، فهو بمنزلة الحيّ الكامل الخلقة، ويترتّب على هذا ثبوت النّسب إذا أقرّ السّيّد بالوطء عند الجمهور، خلافاً للحنفيّة حيث اشترطوا إقراره بأنّ الولد منه‏.‏ وإذا تزوّج الشّخص أمة غيره فأولدها أو أحبلها ثمّ ملكها بشراءٍ أو غيره لم تصر أمّ ولدٍ له بذلك، سواءٌ ملكها حاملاً فولدت في ملكه، أو ملكها بعد ولادتها، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة، لأنّها علقت منه بمملوكٍ فلم يثبت لها حكم الاستيلاد‏.‏ ونقل عن الإمام أحمد أنّها تصير أمّ ولدٍ في الحالين، وهو قول أبي حنيفة، لأنّها أمّ ولدٍ وهو مالكٌ لها، فثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو حملت في ملكه‏.‏

وعند المالكيّة إن اشتراها حاملاً فإنّها تصير أمّ ولدٍ بهذا الحمل‏.‏

ما يملكه السّيّد في أمّ الولد

9 - إذا حبلت الأمة من سيّدها وولدت فحكمها حكم الإماء في حلّ وطء سيّدها لها، واستخدامها، وملك كسبها، وتزويجها، وإجارتها، وعتقها، وهذا قول أكثر أهل العلم‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز لسيّدها تزويجها بغير رضاها، فإن رضيت جاز مع الكراهة، قالوا‏:‏ لأنّ ذلك ليس من مكارم الأخلاق، وقالوا‏:‏ إنّ إجارتها كذلك لا تجوز إلاّ برضاها وإلاّ فسخت، وللسّيّد قليل خدمتها‏.‏

ما لا يملكه السّيّد

10 - جمهور الفقهاء - وعليه أكثر التّابعين - على أنّ السّيّد لا يجوز له في أمّ ولده التّصرّف بما ينقل الملك، فلا يجوز بيعها، ولا وقفها، ولا رهنها، ولا تورث، بل تعتق بموت السّيّد من كلّ المال ويزول الملك عنها‏.‏ روي عن عبيدة قال‏:‏ خطب عليٌّ النّاس، فقال‏:‏ ‏(‏شاورني عمر في أمّهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن أعتقهنّ، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلمّا ولّيت رأيت أن أرقّهنّ‏)‏‏.‏ قال عبيدة‏:‏ فرأي عمر وعليٍّ في الجماعة أحبّ إلينا من رأي عليٍّ وحده‏.‏ وروي القول بهذا أيضاً عن عثمان وعائشة، وروي الخلاف في ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وابن الزّبير قالوا بإباحة بيع أمّ الولد‏.‏

والأصل في الباب حديث «أيّما أمةٍ ولدت من سيّدها فهي حرّةٌ عن دبرٍ منه» وخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع أمّهات الأولاد، لا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها سيّدها ما دام حيّاً، فإذا مات فهي حرّةٌ»‏.‏

أثر اختلاف الدّين في الاستيلاد

11 - قال الفقهاء‏:‏ يصحّ استيلاد الكافر، ذمّيّاً أو مستأمناً أو مرتدّاً، كما يصحّ منه العتق‏.‏ وإذا استولد الذّمّيّ أمته الذّمّيّة ثمّ أسلمت لم تعتق في الحال عند الشّافعيّة، وفي الرّواية المعتمدة عند الحنابلة‏.‏ وعند المالكيّة تعتق إذ لا سبيل إلى بيعها، ولا إلى إقرار ملكه عليها، لما فيه من إثبات ملك الكافر على مسلمةٍ، فلم يجز كالأمة‏.‏

وعن الإمام أحمد روايةٌ أخرى أنّها تستسعى، فإن أرادت عتقت، وهو قول أبي حنيفة إذا لم يسلم مالكها، لأنّ في الاستسعاء جمعاً بين الحقّين‏:‏ حقّها في ألاّ تبقى ملكاً للكافر، وحقّه في حصول عوضٍ عن ملكه، فأشبه بيعها إذا لم تكن أمّ ولدٍ، وإذا أسلمت أمّ ولدٍ لكافرٍ منع من وطئها أو التّلذّذ بها، ويحال بينه وبينها، ويجبر على نفقتها فإذا أسلم حلّت له‏.‏

ما تختصّ به المستولدة

الأصل في أحكام أمّهات الأولاد أنّها كأحكام الإماء في جميع الأمور، إلاّ أنّ بي الولد تختصّ بما يلي‏:‏

أ - العدّة‏:‏

12 - إذا مات السّيّد عن أمّ ولده فعند المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة تستبرأ بحيضةٍ، وأمّا مذهب الحنفيّة فعليها العدّة، وعدّتها بالحيض فلا يكتفى بحيضةٍ، وإنّما كانت عدّتها بالحيض في الموت وغيره كتفريق القاضي لأنّ عدّتها لتعرف براءة الرّحم، وهذا إذا كانت غير يائسةٍ وغير حاملٍ، فإنّ عدّة اليائسة شهران، وعدّة الحامل وضع الحمل، ولا نفقة لها في مدّة العدّة عند كلّ الفقهاء، لأنّها عدّة وطء لا عدّة عقدٍ‏.‏

ب - العورة‏:‏

13 - عورة أمّ الولد ما بين السّرّة والرّكبة والظّهر والبطن، وهذا عند الحنفيّة، وروايةٌ عن المالكيّة، وفي روايةٍ أخرى أنّها لا تصلّي إلاّ بقناعٍ، وعند الشّافعيّة، وهو الصّحيح عند الحنابلة أنّ عورتها ما بين السّرّة والرّكبة‏.‏

جناية أمّ الولد

14 - اتّفق الفقهاء على أنّ أمّ الولد إذا جنت جنايةً أوجبت المال، أو أتلفت شيئاً، فعلى السّيّد فداؤها بأقلّ الأمرين‏:‏ من قيمتها يوم الحكم على أنّها أمةٌ بدون مالها، أو الأرش، حتّى وإن كثرت الجنايات‏.‏

وحكي قولٌ آخر عن الحنابلة أنّ على السّيّد فداءها بأرش جنايتها بالغةً ما بلغت، كالقنّ‏.‏

إقرار أمّ الولد بجنايةٍ

15 - إذا أقرّت أمّ الولد بجنايةٍ توجب المال لم يجز إقرارها، لأنّه إقرارٌ على السّيّد، وهذا بخلاف الإقرار بالقتل عمداً، فإنّه يصحّ إقرارها على نفسها فتقتل به‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة‏.‏ ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّ العبد - وأمّ الولد مثله - يصحّ إقراره بالحدّ والقصاص فيما دون النّفس، لأنّ الحقّ له دون سيّده‏.‏

وأمّا إقراره بما يوجب القصاص في النّفس فالمنصوص عن أحمد أنّه لا يقبل، ويتبع به بعد العتق، لأنّه يسقط حقّ سيّده بإقراره، ولأنّه متّهمٌ في أنّه يقرّ لرجلٍ ليعفو عنه ويستحقّ أخذه، فيتخلّص به من سيّده‏.‏ واختار أبو الخطّاب أنّه يصحّ إقراره به، لأنّه أحد فرعي القصاص، فيصحّ إقراره بما دون النّفس‏.‏

الجناية على جنين أمّ الولد من سيّدها

16 - تقدّم أنّ حمل أمّ الولد من سيّدها حرٌّ، فلو ضربها أحدٌ فألقت جنينها ففيه دية جنين الحرّة، انظر مصطلح ‏(‏إجهاضٌ‏)‏‏.‏

الجناية عليها

17 - إذا قتل المستولدة حرٌّ، فلا قصاص عليه لعدم المكافأة، وعليه قيمتها بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دية الحرّة، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمّدٌ‏:‏ دية العبد قيمته‏.‏ فإن بلغت دية الحرّ، أو بلغت قيمة الأمة قيمة دية الحرّة ينقص كلٌّ من دية العبد أو الأمة عشرة دراهم، إظهاراً لانحطاط مرتبة الرّقيق عن الحرّ‏.‏ وتعيين العشرة بأثر ابن مسعودٍ‏.‏ أمّا إذا قتلها رقيقٌ فيقتل بها لأنّها أكمل منه‏.‏

أثر موت المستولدة في حياة سيّدها عليها، وعلى ولدها من غيره

18 - إذا ماتت أمّ الولد قبل سيّدها لا يبطل حكم الاستيلاد في الولد الّذين ولدتهم بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها، بل يعتقون بموت السّيّد‏.‏

الوصيّة للمستولدة وإليها

19 - تصحّ الوصيّة لأمّ الولد، قال صاحب المغني‏:‏ لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم القائلين بثبوت حكم الاستيلاد‏.‏ فقد روي أنّ عمر بن الخطّاب ‏"‏ أوصى لأمّهات أولاده بأربعة آلافٍ، أربعة آلافٍ لكلّ امرأةٍ منهنّ ولأنّ بي الولد حرّةٌ في حال نفاذ الوصيّة لأنّ عتقها يتنجّز بموته، فلا تقع الوصيّة لها إلاّ في حال حرّيّتها، وذلك إذا احتملها الثّلث، فما زاد يتوقّف على إجازة الورثة، فإن أجازوه جاز إلاّ ردّ إليهم‏.‏ وكذلك تجوز الوصيّة إلى المستولدة بعد وفاة سيّدها إذا كانت صالحةً لذلك، لأنّها بعد عتقها بموت سيّدها كسائر الحرائر، فتجوز الوصيّة إليها‏.‏

أسرٌ

انظر‏:‏ أسرى‏.‏

إسرارٌ

التعريف

1 - من معاني الإسرار في اللّغة‏:‏ الإخفاء‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أسرّ النّبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً‏}‏‏.‏ وأسررت الشّيء‏:‏ أخفيته‏.‏

أمّا في الاصطلاح فيأتي ‏(‏الإسرار‏)‏ بالمعاني التّالية‏:‏

أ - أن يسمع نفسه دون غيره، وأدناه ما كان بحركة اللّسان، وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في أقوال الصّلاة والأذكار‏.‏

ب - أن يسمع غيره على سبيل المناجاة، مع الكتمان عن الآخرين، وهذا المعنى يرد في السّرّ وإفشائه، ويرجع إليه في مصطلح ‏(‏إفشاء السّرّ‏)‏‏.‏

ج - أن يخفي فعله عمّن سواه، وهذا المعنى يرد في أداء العبادات كالصّلاة والزّكاة ونحوهما‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المخافتة

2 - من معاني المخافتة في اللّغة‏:‏ خفض الصّوت‏.‏ أمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في حدّ وجود القراءة على ثلاثة أقوالٍ‏:‏

فشرط الهندوانيّ والفضليّ من الحنفيّة لوجودها خروج صوتٍ يصل إلى أذنه، وبه قال الشّافعيّ‏.‏ وشرط الإمام أحمد وبشرٌ المريسيّ خروج الصّوت من الفم وإن لم يصل إلى أذنه، لكن بشرط كونه مسموعاً في الجملة، حتّى لو أدنى أحدٌ صماخه إلى فيه يسمع، ولم يشترط الكرخيّ وأبو بكرٍ البلخيّ السّماع، واكتفيا بتصحيح الحروف‏.‏

واختار شيخ الإسلام قاضي خان وصاحب المحيط والحلوانيّ قول الهندوانيّ، كما في معراج الدّراية‏.‏ فظهر بهذا أنّ أدنى المخافتة إسماع نفسه، أو من بقربه من رجلٍ أو رجلين مثلاً، وأعلاها مجرّد تصحيح الحروف، كما هو مذهب الكرخيّ، وأدنى الجهر إسماع غيره ممّن ليس بقربه، كأهل الصّفّ الأوّل، وأعلاه لا حدّ له‏.‏

ب - الجهر‏:‏

3 - من معاني الجهر في اللّغة‏:‏ رفع الصّوت‏.‏ يقال‏:‏ جهر بالقول رفع به صوته‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ أن يسمع غيره ممّن يليه، وأعلاه لا حدّ له، فالجهر مباينٌ للإسرار‏.‏

ج - الكتمان‏:‏

4 - من معانيه في اللّغة‏:‏ أنّه خلاف الإعلان‏.‏ وهو في الاصطلاح‏:‏ السّكوت عن البيان‏.‏ قال تعالى ‏{‏إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون، إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا، فأولئك أتوب عليهم وأنا التّوّاب الرّحيم‏}‏‏.‏

د - الإخفاء‏:‏

5 - الإحفاء بمعنى الإسرار لغةً واصطلاحاً، إلاّ أنّ استعمال الإخفاء يغلب في الأفعال، أمّا الإسرار فيغلب في الأقوال‏.‏ وينظر مصطلح ‏(‏اختفاءٌ‏)‏‏.‏

صفة الإسرار‏:‏ حكمه التّكليفي

أوّلاً‏:‏ الإسرار بمعنى إسماع نفسه فقط

الإسرار في العبادات

6 - الصّلوات السّرّيّة‏:‏ المراد بها الّتي لا جهر فيها، وهي الظّهر والعصر في الفرائص والنّوافل، وصلاة التّطوّع في النّهار‏.‏ والإسرار فيها مستحبٌّ عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قولٍ لهم، وفي آخر مندوبٌ، وواجبٌ عند الحنفيّة‏.‏ وإنّما كانت سرّيّةً، لأنّها صلاة نهارٍ، وصلاة النّهار عجماء كما ورد في الخبر، أي ليست فيها قراءةٌ مسموعةٌ، وذلك بالنّسبة لكلّ مصلٍّ، سواءٌ أكان إماماً أم منفرداً أم مأموماً عند غير الحنفيّة، فإنّ المأموم عندهم لا قراءة عليه‏.‏

الإسرار في أقوال الصّلاة

أ - تكبيرة الإحرام‏:‏

7 - يستحبّ للإمام أن يجهر بالتّكبير بحيث يسمع المأمومين ليكبّروا، فإنّهم لا يجوز لهم التّكبير إلاّ بعد تكبيره‏.‏ فإن لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم، أو ليسمع من لا يسمع الإمام، لما روى جابرٌ قال «صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ خلفه، فإذا كبّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كبّر أبو بكرٍ ليسمعنا» متّفقٌ عليه‏.‏

ب - دعاء الاستفتاح‏:‏

8 - وهو ما تستفتح به الصّلاة من الأدعية المأثورة لذلك، نحو «سبحانك اللّهمّ وبحمدك‏.‏‏.‏‏.‏» أو «وجّهت وجهي‏.‏‏.‏‏.‏» وهو سنّةٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، خلافاً للمالكيّة فإنّهم لا يقولون به‏.‏ والسّنّة عند من يقول بمشروعيّته أن يأتي به سرّاً، ويكره الجهر به ولا تبطل الصّلاة‏.‏ انظر ‏(‏استفتاحٌ‏)‏‏.‏

ت - التّعوّذ‏:‏

9 - والقول في الإسرار به كالقول في الاستفتاح سواءٌ‏.‏

ث - البسملة لغير المؤتمّ في أوّل كلّ ركعةٍ‏:‏

10 - وهي سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة، واجبةٌ عند الشّافعيّة في الصّلاة، ولا يقول بها المالكيّة في الفرض لكراهيتها في المشهور، وأجازوها في النّافلة من غير كراهةٍ، فيسنّ الإسرار بها عند الحنفيّة والحنابلة، أمّا عند الشّافعيّة فهي تابعةٌ لكيفيّة القراءة من جهرٍ أو إسرارٍ، وتفصيله في مصطلح ‏(‏بسملةٌ‏)‏‏.‏

ج – قراءة الفاتحة‏:‏

11 – وتقرأ سرّاً في الصّلاة السّرّيّة، للإمام والمنفرد، وفي الرّكعتين الثّالثة والرّابعة من الصّلاة الجهريّة للإمام والمنفرد، أمّا قراءة المأموم لها عند من قال بذلك فهي كلّها سرّيّةٌ‏.‏ أمّا المنفرد في الصّلاة الجهريّة، فهو مخيّرٌ بين الجهر والإسرار عند الحنفيّة والحنابلة، ويستحبّ له الجهر عند الشّافعيّة‏.‏

ويسرّ في النّوافل النّهاريّة وجوباً عند الحنفيّة، واستحباباً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويسرّ في قضاء الصّلاة السّرّيّة إذا قضاها ليلاً، وصرّح ابن قدامة بأنّه لا يعلم فيه خلافاً‏.‏ وإذا قضى الصّلاة الجهريّة نهاراً وكان إماماً جهر وجوباً عند الحنفيّة والمالكيّة، وأسرّ عند الشّافعيّة، وللحنابلة قولان‏.‏ ويجهر بالقراءة في الجمعة والعيدين والاستسقاء‏.‏

ح - تأمين الإمام والمأموم والمنفرد‏:‏

12 - يقولونه سرّاً عند الحنفيّة والمالكيّة، وجهراً عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

واستدلّ القائلون بالإسرار بأنّه دعاءٌ، والأصل في الأدعية الإسرار، كالتّشهّد‏.‏

واستدلّ من قال بالجهر «بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ آمين ورفع بها صوته»، «ولأنّه صلى الله عليه وسلم أمر بالتّأمين عند تأمين الإمام»، فلو لم يجهر بها لم يعلّق عليه كحالة الإخفاء‏.‏

خ - تسبيح الرّكوع‏:‏

13 - الإسرار بالتّسبيح سنّةٌ اتّفاقاً‏.‏

د - التّسميع والتّحميد حال رفع الرّأس من الرّكوع للقيام‏:‏

14 - يسمّع الإمام جهراً، ويحمد الجميع سرّاً‏.‏

ذ - التّسبيح في السّجدتين‏:‏

15 - يقوله المصلّي سرّاً، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً‏.‏ وكذلك الأذكار بين السّجدتين، والتّشهّد الأوّل والأخير، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والأدعية في آخر الصّلاة‏.‏ أمّا التّسليم فيجهر به الإمام دون المأموم أو المنفرد‏.‏

الإسرار بالاستعاذة والبسملة خارج الصّلاة

16 - للفقهاء والقرّاء في الجهر بالاستعاذة أو الإسرار بها آراءٌ‏:‏

أ - استحباب الجهر بها، وهو قول الشّافعيّة، وروايةٌ عن أحمد، والمختار عند أئمّة القرّاء‏.‏

ب - لم يخالف في ذلك إلاّ حمزة ومن وافقه‏.‏

ج - التّخيير بين الجهر والإسرار، وهو الصّحيح عند الحنفيّة، وقولٌ للحنابلة‏.‏

د - الإخفاء مطلقاً، وهو قولٌ للحنفيّة، وروايةٌ عند الحنابلة، وروايةٌ عن حمزة‏.‏

هـ – الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط، والإخفاء في سائر القرآن، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن حمزة‏.‏ وحكم البسملة في ذلك تابعٌ لحكم الاستعاذة، إلاّ ما روي عن نافعٍ أنّه كان يخفي الاستعاذة ويجهر بالبسملة عند افتتاح السّور ورءوس الآيات في جميع القرآن‏.‏

هذا بالنّسبة للرّجل، أمّا المرأة فجهرها إسماع نفسها فقط، والجهر في حقّها كالإسرار، فيكون أعلى جهرها وأدناه واحداً، وعلى هذا فيستوي في حقّها السّرّ والجهر، لأنّ صوتها كالعورة، وربّما كان سماعه فتنةً، بل جهرها مرتبةٌ واحدةٌ، وهو أن تسمع نفسها فقط، وليس هذا إسراراً منها، بل إسرارها مرتبةٌ أخرى، وهو أن تحرّك لسانها دون إسماع نفسها، فليس لإسرارها أعلى وأدنى، كما أنّ جهرها كذلك‏.‏

وانظر للتّفصيل مصطلحي ‏(‏استعاذةٌ‏)‏ ‏(‏وبسملةٌ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الإسرار في الأفعال

الزّكاة‏:‏

17 - قال أبو بكر بن العربيّ‏:‏ لا خلاف في أنّ إظهار صدقة الفرض أفضل، كصلاة الفرض وسائر فرائض الشّريعة، لأنّ المرء يحرز بها إسلامه ويعصم ماله‏.‏ وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إنّه لا يشترط علم الفقير أنّ ما أعطي له زكاةٌ على الأصحّ، لما في ذلك من كسر قلبه، ولذا فإنّ الإسرار في إعطائها إليه أفضل من إعلانه بها‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الأفضل فيها إظهار إخراجها ليراه غيره فيعمل عمله، ولئلاّ يساء الظّنّ به‏.‏ واستحبّ الحنابلة إظهار إخراجها، سواءٌ أكان الإخراج بموضعٍ يخرج أهله الزّكاة أم لا، وسواءٌ أنفي عنه ظنّ السّوء بإظهار إخراجها أم لا، لما فيه من نفي الرّيبة عنه، ولعلّه يقتدى به، ومن علم أهليّته أخذ الزّكاة - ولو بغلبة الظّنّ - كره أن يعلمه أنّها زكاةٌ، ومع عدم عادة الآخذ بأخذ الزّكاة لا يجزئ دفعها إليه إلاّ أن يعلمه أنّها زكاةٌ، لأنّه لا يقبل زكاةً ظاهراً‏.‏

صدقات التّطوّع‏:‏

18 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ الإسرار بها أفضل من الجهر، ولذا يسنّ لمعطيها أن يسرّ بها، لقوله تعالى ‏{‏إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي، وإن تحفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ‏}‏‏.‏ ولما روي عن أبي هريرة مرفوعاً «سبعةٌ يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه وذكر منهم رجلاً تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله»‏.‏ ولما روي أنّ رسول قال‏:‏ «صنائع المعروف تقي مصارع السّوء، وصدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ، وصلة الرّحم تزيد في العمر» ولأنّ إعطاءها على هذا النّحو يراد به اللّه عزّ وجلّ وحده، وقد قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ‏"‏ جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً‏.‏

قيام اللّيل‏:‏

19 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ المتنفّل ليلاً يخيّر بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، إلاّ أنّه إن كان الجهر أنشط له في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها فالجهر أفضل، وإن كان قريباً منه من يتهجّد، أو من يتضرّر برفع صوته فالإسرار أولى، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء‏.‏ «قال عبد اللّه بن أبي قيسٍ‏:‏ سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول اللّه‏؟‏ فقالت‏:‏ كلّ ذلك كان يفعل‏.‏ ربّما أسرّ، وربّما جهر»‏.‏ وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ «كانت قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل يرفع طوراً، يخفض طوراً» وقال المالكيّة‏:‏ إنّ المستحبّ في نوافل اللّيل الإجهار، وهو أفضل من الإسرار، لأنّ صلاة اللّيل تقع في الأوقات المظلمة فينبّه القارئ بجهره المارّة، وللأمن من لغو الكافر عند سماع القرآن، لاشتغاله غالباً في اللّيل بالنّوم أو غيره، بخلاف النّهار‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّه يسنّ في نوافل اللّيل المطلقة التّوسّط بين الجهر والإسرار إن لم يشوّش على نائمٍ أو مصلٍّ أو نحوه، إلاّ التّراويح فيجهر بها‏.‏ والمراد بالتّوسّط أن يزيد على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه، والّذي ينبغي فيه ما قاله بعضهم‏:‏ إنّه يجهر تارةً، ويسرّ أخرى‏.‏

الأدعية والأذكار في غير الصّلاة

20 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ الإسرار بالأدعية والأذكار من حيث الجملة أفضل من الجهر بها، فالإسرار بها سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة، ومندوبٌ عند الشّافعيّة‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً‏}‏ أي سرّاً في النّفس، ليبعد عن الرّياء، وبذلك أثنى اللّه تعالى على نبيّه زكريّا عليه السلام، إذ قال مخبراً عنه‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً‏}‏، ولأنّه أقرب إلى الإخلاص، وقد ورد «خير الذّكر الخفيّ»‏.‏

أمّا في عرفة فرفع الصّوت بذلك وبالتّلبية أفضل من الإسرار به، إذ رفع الصّوت بالتّلبية والدّعاء بعرفة سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة، ومندوبٌ عند الشّافعيّة، بحيث لا يجهد نفسه، ولا يفرط في الجهر بالدّعاء بها، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «جاءني جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمّد، مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتّلبية، فإنّها من شعار الحجّ» وقال‏:‏ «أفضل الحجّ العجّ والثّجّ» فالعجّ‏:‏ رفعه الصّوت بالتّلبية، والثّجّ‏:‏ إسالة دماء الهدي‏.‏ هذا، وإنّ لبعض الأذكار صفةً خاصّةً من الجهر أو الإسرار، كالتّلبية، والإقامة، وأذكار ما بعد الصّلاة، والتّسمية على الذّبيحة، والأذكار من المرأة، وتنظر في مواضعها الخاصّة‏.‏

الإسرار باليمين

21 - الإسرار باليمين - إذا أسمع نفسه - كالجهر بها‏.‏ والإسرار بالاستثناء كالإسرار باليمين متى توافرت عناصره، وكان الاستثناء متّصلاً بالمستثنى منه، إلاّ لعارضٍ كسعالٍ أو عطاسٍ أو انقطاع نفسٍ‏.‏ وتفصيل ذلك يرجع إليه في ‏(‏استثناءٌ‏)‏ ‏(‏وأيمانٌ‏)‏‏.‏

الإسرار بالطّلاق

22 - الإسرار في الطّلاق بإسماع نفسه كالجهر به، فمتى طلّق امرأته إسراراً بلفظ الطّلاق، صريحاً كان أو كنايةً مستوفيةً شرائطها على الوجه المذكور، فإنّ طلاقه يقع، وتترتّب عليه آثاره، ومتى لم تتوافر شرائطه فإنّ الطّلاق لا يقع، كما لو أجراه على قلبه دون أن يتلفّظ به إسماعاً لنفسه أو بحركة لسانه‏.‏ هذا، وقد قال المالكيّة في لزومه بكلامه النّفسيّ، كأن يقول بقلبة أنت طالقٌ‏:‏ أنّ فيه خلافاً، والمعتمد عندهم عدم اللّزوم‏.‏

والكلام في الاستثناء في الطّلاق كالكلام في الطّلاق‏.‏

إسرافٌ

التعريف

1 - من معاني الإسراف في اللّغة‏:‏ مجاوزة القصد، يقال‏:‏ أسرف في ماله أي أنفق من غير اعتدالٍ، ووضع المال في غير موضعه‏.‏ وأسرف في الكلام، وفي القتل‏:‏ أفرط‏.‏ وأمّا السّرف الّذي نهى اللّه تعالى عنه فهو ما أنفق في غير طاعة اللّه، قليلاً كان أو كثيراً‏.‏

أمّا في الاصطلاح الشّرعيّ، فقد ذكر القليوبيّ للإسراف المعنى اللّغويّ نفسه، وهو‏:‏ مجاوزة الحدّ‏.‏ وخصّ بعضهم استعمال الإسراف بالنّفقة والأكل‏.‏ يقول الجرجانيّ في التّعريفات‏:‏ الإسراف تجاوز الحدّ في النّفقة‏.‏ وقيل‏:‏ أن يأكل الرّجل ما لا يحلّ له، أو يأكل ما يحلّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة‏.‏

وقيل‏:‏ الإسراف تجاوز الكميّة، فهو جهلٌ بمقادير الحقوق‏.‏ والسّرف‏:‏ مجاوزة الحدّ بفعل الكبائر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا‏}‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّقتير‏:‏

2 - وهو يقابل الإسراف، ومعناه‏:‏ التّقصير، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً‏}‏

ب - التّبذير‏:‏

3 - التّبذير‏:‏ هو تفريق المال في غير قصدٍ، ومنه البذر في الزّراعة‏.‏

وقيل‏:‏ هو إفساد المال وإنفاقه في السّرف‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبذّر تبذيراً‏}‏ وخصّه بعضهم بإنفاق المال في المعاصي، وتفريقه في غير حقٍّ‏.‏ ويعرّفه بعض الفقهاء بأنّه‏:‏ عدم إحسان التّصرّف في المال، وصرفه فيما لا ينبغي، فصرف المال إلى وجوه البرّ ليس بتبذيرٍ، وصرفه في الأطعمة النّفيسة الّتي لا تليق بحاله تبذيرٌ‏.‏ وعلى هذا فالتّبذير أخصّ من الإسراف، لأنّ التّبذير يستعمل في إنفاق المال في السّرف أو المعاصي أو في غير حقٍّ، والإسراف أعمّ من ذلك، لأنّه مجاوزٌ الحدّ، سواءٌ أكان في الأموال أم في غيرها، كما يستعمل الإسراف في الإفراط في الكلام أو القتل وغيرهما‏.‏ وقد فرّق ابن عابدين بين الإسراف والتّبذير من جهةٍ أخرى، فقال‏:‏ التّبذير يستعمل في المشهور بمعنى الإسراف، والتّحقيق أنّ بينهما فرقاً، وهو أنّ الإسراف‏:‏ صرف الشّيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، والتّبذير‏:‏ صرف الشّيء فيما لا ينبغي‏.‏ ومثله ما جاء في نهاية المحتاج نقلاً عن الماورديّ، التّبذير‏:‏ الجهل بمواقع الحقوق، والسّرف‏:‏ الجهل بمقادير الحقوق‏.‏

ج - السّفه‏:‏

4 - السّفه في اللّغة‏:‏ خفّة العقل والطّيش والحركة‏.‏ وفي الشّريعة‏:‏ تضييع المال وإتلافه على خلاف مقتضى الشّرع والعقل‏.‏ وقد عرّفه بعضهم بالتّبذير والإسراف في النّفقة، فقد جاء في بلغة السّالك‏:‏ أنّ السّفه هو التّبذير، وورد في أسنى المطالب أنّ السّفيه هو‏:‏ المبذّر، والأصل أنّ السّفه سبب التّبذير والإسراف، وهما أثران للسّفه، كما يتبيّن ممّا قاله الجرجانيّ في التّعريفات‏:‏ السّفه خفّةٌ تعرض للإنسان من الفرح والغضب، فيحمله على العمل بخلاف طور العقل ومقتضى الشّرع‏.‏ وجاء في دستور العلماء ما يؤيّد ذلك، حيث قال‏:‏ ومن عادة السّفيه التّبذير والإسراف في النّفقة‏.‏ ويؤيّد هذه التّفرقة المعنى اللّغويّ للسّفه من أنّه‏:‏ خفّة العقل‏.‏ وعلى ذلك فالعلاقة بين السّفه والإسراف علاقة السّبب والمسبّب‏.‏

حكم الإسراف

5 - يختلف حكم الإسراف بحسب متعلّقه، كما تبيّن في تعريف الإسراف، فذهب بعض الفقهاء إلى أنّ صرف المال الكثير في أمور البرّ والخير والإحسان لا يعتبر إسرافاً، فلا يكون ممنوعاً‏.‏ أمّا صرفه في المعاصي والتّرف وفيما لا ينبغي فيعتبر إسرافاً منهيّاً عنه، ولو كان المال قليلاً‏.‏ وقد نقل عن مجاهدٍ أنّه قال‏:‏ لو كان جبل أبي قبيسٍ ذهباً لرجلٍ، فأنفقه في طاعة اللّه لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً أو مدّاً في معصية اللّه كان مسرفاً، ويرى بعض الفقهاء أنّ الإسراف كما يكون في الشّرّ، يكون في الخير، كمن تصدّق بجميع ماله، واستدلّ لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا‏}‏ أي لا تعطوا أموالكم كلّها فتقعدوا فقراء، وروي أنّ ثابت بن قيس بن شمّاسٍ أنفق جذاذ خمسمائة نخلةٍ، ولم يترك لأهله شيئاً، فنزلت الآية السّابقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنّها نزلت في معاذ بن جبلٍ بفعله مثل ذلك‏.‏ كذلك يختلف حكم الإسراف إذا كان في العبادات عمّا إذا كان في المحظورات أو المباحات، أو في استعمال الحقّ والعقوبات، وسيأتي تفصيل هذه الأنواع‏.‏

الإسراف في الطّاعات

أوّلاً ‏:‏ الإسراف في العبادات البدنيّة

أ - الإسراف في الوضوء‏:‏

وذلك يتحقّق في حالتين‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ تكرار غسل الأعضاء‏:‏

6 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ تكرار غسل الأعضاء إلى ثلاثٍ مسنونٌ‏.‏ جاء في المغني أنّ الوضوء مرّةً أو مرّتين يجزئ، والثّلاث أفضل‏.‏ والمشهور في مذهب مالكٍ أنّ الغسلة الثّانية والثّالثة فضيلتان‏.‏ وعلى ذلك فغسل الأعضاء ثلاث مرّاتٍ لا يعتبر إسرافاً، بل هو سنّةٌ أو مندوبٌ‏.‏ أمّا الزّيادة على الثّلاث الموعبة فمكروهٌ عند الجمهور‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو الرّاجح في مذهب المالكيّة، لأنّها من السّرف في الماء، والقول الثّاني للمالكيّة أنّها تمنع‏.‏ والكراهة فيما إذا كان الماء مملوكاً أو مباحاً، أمّا الماء الموقوف على من يتطهّر به - ومنه ماء المدارس - فإنّ الزّيادة فيه على الثّلاث حرامٌ عند الجميع، لكونها غير مأذونٍ بها، لأنّه إنّما يوقف ويساق لمن يتوضّأ الوضوء الشّرعيّ، ولم يقصد إباحتها لغير ذلك‏.‏ واستدلّوا على كراهة الزّيادة على الثّلاث بحديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه «أنّ رجلاً أتاه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه كيف الطّهور‏؟‏ فدعا بماءٍ في إناءٍ فغسل كفّيه ثلاثاً، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه، وأدخل أصبعيه السّبّاحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسّبّاحتي ن باطن أذنيه، ثمّ غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ قال‏:‏ هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء»‏.‏ وقد ذكر بعض الفقهاء أنّ الوعيد في الحديث لمن زاد أو نقص مع عدم اعتقاد الثّلاث سنّةٌ، أمّا إذا زاد - مع اعتقاد سنّيّة الثّلاث - لطمأنينة القلب عند الشّكّ، أو بنيّة وضوءٍ آخر فلا بأس به، فإنّ الوضوء على الوضوء نورٌ على نورٍ، وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولهذا جاء في ابن عابدين نقلاً عن البدائع‏:‏ إذا زاد أو نقص، واعتقد أنّ الثّلاث سنّةٌ، لا يلحقه الوعيد‏.‏ ثمّ بيّن أنّ المنفيّ في هذه الحالة إنّما هو الكراهة التّحريميّة، فتبقى الكراهة التّنزيهيّة‏.‏ وقيّد الشّافعيّة، وبعض الحنفيّة، أفضليّة الوضوء على الوضوء بألاّ يكون في مجلسٍ واحدٍ، أو كان قد صلّى بالضّوء الأوّل صلاةً، وإلاّ يكره التّكرار ويعتبر إسرافاً، وقال القليوبيّ‏:‏ الوجه الحرمة‏.‏ أمّا لو كرّره ثالثاً أو رابعاً بغير أن تتخلّله صلاةٌ فيعتبر إسرافاً محضاً عند الجميع‏.‏

الحالة الثّانية - استعمال الماء أكثر ممّا يكفيه‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على أنّ ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدّرٍ بمقدارٍ معيّنٍ، ونقل ابن عابدين الإجماع على ذلك وقال‏:‏ إنّ ما ورد في الحديث‏:‏ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يتوضّأ بالمدّ ويغتسل بالصّاع» ليس بتقديرٍ لازمٍ، بل هو بيان أدنى القدر المسنون، حتّى إنّ من أسبغ بدون ذلك أجزأه، وإن لم يكفه زاد عليه، لأنّ طباع النّاس وأحوالهم مختلفةٌ‏.‏ واتّفقوا كذلك على أنّ الإسراف في استعمال الماء مكروهٌ، ولهذا صرّح الحنابلة بأنّه يجزئ المدّ وما دون ذلك في الوضوء، وإن توضّأ بأكثر من ذلك جاز، إلاّ أنّه يكره الإسراف‏.‏ ومع ذلك قال الشّافعيّة‏:‏ يسنّ أن لا ينقص ماء الوضوء فيمن اعتدل جسمه عن مدٍّ تقريباً، لأنّه صلى الله عليه وسلم «كان يوضّئه المدّ» ولا حدّ لماء الوضوء، لكنّه يشترط الإسباغ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ من مستحبّات الوضوء تقليل الماء من غير تحديدٍ في ذلك، وأنكر مالكٌ قول من قال‏:‏ حتّى يقطر الماء أو يسيل، يعني أنكر السّيلان عن العضو لا السّيلان على العضو، إذ لا بدّ منه، وإلاّ فهو مع عدم السّيلان مسحٌ بلا شكٍّ، وإنّما يراعى القدر الكافي في حقّ كلّ واحدٍ، فما زاد على قدر ما يكفيه فهو بدعةٌ وإسرافٌ، وإن اقتصر على قدر ما يكفيه فقد أدّى السّنّة، فالمستحبّ لمن يقدر على الإسباغ بقليلٍ أن يقلّل الماء، ولا يستعمل زيادةً على الإسباغ، أي في كلّ مرّةٍ‏.‏

ومعيار الإسراف عند الحنفيّة هو أن يستعمل الماء فوق الحاجة الشّرعيّة، وذكر أكثر الأحناف أنّ ترك التّقتير - بأن يقترب إلى حدّ الدّهن، ويكون التّقاطر غير ظاهرٍ - وترك الإسراف - بأن يزيد على الحاجة الشّرعيّة - سنّةٌ مؤكّدةٌ، وعلى هذا فيكون الإسراف في استعمال الماء في الوضوء مكروهاً تحريماً، كما صرّح به صاحب الدّرّ، لكن رجّح ابن عابدين كونه مكروهاً تنزيهاً‏.‏ واستدلّ الفقهاء على كراهة الإسراف في الماء بحديث عبد اللّه بن عمر وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ، فقال‏:‏ ما هذا السّرف‏؟‏ فقال‏:‏ أفي الوضوء إسرافٌ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، وإن كنت على نهرٍ جارٍ»‏.‏

وهذا كلّه في غير الموسوس، أمّا الموسوس فيغتفر في حقّه لما ابتلي به‏.‏

ب - الإسراف في الغسل‏:‏

8 - من سنن الغسل التّثليث، بأن يفيض الماء على كلّ بدنه ثلاثاً مستوعباً، والزّائد على ذلك يعتبر إسرافاً مكروهاً، ولا يقدّر الماء الّذي يجزئ الغسل به، لأنّ الحاجة الشّرعيّة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فما زاد على الكفاية أو بعد تيقّن الواجب فهو سرفٌ مكروهٌ، وهذا القدر متّفقٌ عليه، أمّا ما ورد في الحديث‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصّاع» فهو بيانٌ لأقلّ ما يمكن به أداء السّنّة عادةً، وليس تقديراً لازماً‏.‏

ج - الإسراف في الصّلاة والصّوم‏:‏

9 - الإنسان مأمورٌ بالاقتصاد ومراعاة الاعتدال في كلّ أمرٍ، حتّى في العبادات الّتي تقرّب إلى اللّه تعالى كالصّلاة والصّيام، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏‏.‏ فالعبادات إنّما أمر بفعلها مشروطةً بنفي العسر والمشقّة الخارجة عن المعتاد، ومن هنا أبيح الإفطار في حالة السّفر والحامل والمريض والمرضع وكلّ من خشي ضرر الصّوم على نفسه فعليه أن يفطر، لأنّ في ترك الإفطار عسراً، وقد نفى اللّه عن نفسه إرادة العسر‏.‏ فلا يجوز فيها الإسراف والمبالغة‏.‏ وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «هلك المتنطّعون» أي المبالغون في الأمر‏.‏ وروي عن أنسٍ أنّه «جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا‏:‏ وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر‏.‏ قال أحدهم‏:‏ أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبداً، وقال آخر‏:‏ أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر‏:‏ أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبداً‏.‏ فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أنتم الّذين قلتم كذا وكذا‏؟‏ أما واللّه إنّي لأخشاكم للّه، وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

قال في نيل الأوطار‏:‏ فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات، لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يفضي إلى ترك الجميع، والدّين يسرٌ، ولن يشادّ أحدٌ الدّين إلاّ غلبه، والشّريعة النّبويّة بنيت على التّيسير وعدم التّنفير‏.‏ ولهذا صرّح بعض الفقهاء بكراهة صوم الوصال وصوم الدّهر، كما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من صام الدّهر فلا صام ولا أفطر» وقالوا بكراهة قيام اللّيل كلّه، لما روي عن «عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ لا أعلم نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح، ولا صام شهراً قطّ غير رمضان»‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ الظّاهر من إطلاق الأحاديث الواردة في إحياء اللّيل الاستيعاب، لكنّه نقل عن بعض المتقدّمين أنّه فسّر ذلك بنصفه، لأنّ من أحيا نصف اللّيل فقد أحيا اللّيل، ويؤيّد هذا التّفسير حديث عائشة المتقدّم، فيترجّح إرادة الأكثر أو النّصف، والأكثر أقرب إلى الحقيقة‏.‏ وأوضح ما جاء في منع الإسراف والمبالغة في الصّلاة والصّيام حديث عبد اللّه بن عمر وقال‏:‏ «دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجرتي، فقال‏:‏ ألم أخبر أنّك تقوم اللّيل وتصوم النّهار‏؟‏، قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ فلا تفعلنّ، نم وقم، وصم وأفطر، فإنّ لعينيك عليك حقّاً، وإن لجسدك عليك حقّاً، وإنّ لزوجتك عليك حقّاً، وإنّ لصديقك عليك حقّاً، وإنّ لضيفك عليك حقّاً، وإن عسى أن يطول بك عمرٌ، وأنّه حسبك أن تصوم من كلّ شهرٍ ثلاثاً، فذلك صيام الدّهر كلّه، وإنّ الحسنة بعشر أمثالها»‏.‏ وقال النّوويّ من الشّافعيّة‏:‏ ويكره أن يقوم كلّ اللّيل دائماً، للحديث المذكور في الكتاب، فإن قيل‏:‏ ما الفرق بينه وبين صوم الدّهر - غير أيّام النّهي - فإنّه لا يكره عندنا‏؟‏ فالجواب أنّ صلاة اللّيل كلّه دائماً يضمر العين وسائر البدن، كما جاء في الحديث الصّحيح، بخلاف الصّوم فإنّه يستوفي في اللّيل ما فاته من أكل النّهار، ولا يمكنه نوم النّهار إذا صلّى اللّيل، لما فيه من تفويت مصالح دينه ودنياه‏.‏ هذا حكم قيام اللّيل دائماً، فأمّا بعض اللّيل فلا يكره إحياؤه، فقد ثبت في الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل» واتّفق أصحابنا على إحياء ليلتي العيدين، واللّه أعلم‏.‏

ثانياً - الإسراف في العبادات الماليّة

أ - الإسراف في الصّدقة‏:‏

10 - الصّدقات الواجبة المحدّدة المقدار، كالزّكاة والنّذر وصدقة الفطر، لا يتصوّر فيها الإسراف، لأنّ أداءها بالقدر المحدّد واجبٌ شرعاً‏.‏ وتفصيل شروط الوجوب، ومقدار ما وجب في هذه الصّدقات مذكورٌ في موضعها‏.‏

أمّا الصّدقات المندوبة - وهي الّتي تعطى للمحتاجين لثواب الآخرة - فرغم حثّ الإسلام على الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين في كثيرٍ من الآيات والأحاديث، فقد أمر اللّه بالقصد والاعتدال وعدم التّجاوز إلى حدٍّ يعتبر إسرافاً، بحيث يؤدّي إلى فقر المنفق نفسه حتّى يتكفّف النّاس‏.‏ قال اللّه تعالى في صفات المؤمنين‏:‏ ‏{‏والّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً‏}‏‏.‏ وكذلك قال سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك، ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً‏}‏ قال المفسّرون في تفسير هذه الآية‏:‏ ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه، فتقعد منقطعاً عن النّفقة والتّصرّف، كما يكون البعير الحسير، وهو الّذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به، وقيل‏:‏ لئلاّ تبقى ملوماً ذا حسرةٍ على ما في يدك، لكنّ المراد بالخطاب غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يكن ممّن يتحسّر على إنفاق ما حوته يده في سبيل اللّه، وإنّما نهى اللّه عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج عن يده، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يأتي أحدكم بما يملك، فيقول‏:‏ هذه صدقةٌ، ثمّ يقعد يستكفّ النّاس،، خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنًى» فأمّا من وثق بموعود اللّه وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مرادٍ بالآية، وقد كان كثيرٌ من فضلاء الصّحابة ينفقون في سبيل اللّه جميع أموالهم، فلم يعنّفهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصحّة يقينهم وشدّة بصائرهم‏.‏ وفي ضوء هذه الآيات والأحاديث صرّح الفقهاء أنّ الأولى أن يتصدّق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يموّنه على الدّوام، ومن أسرف بأن تصدّق بما ينقصه عن كفاية من تلزمه مؤنته، أو ما يحتاج إليه لنفقة نفسه - ولا كسب له - فقد أثم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يموّنه» ولأنّ نفقة من يموّنه واجبةٌ، والتّطوّع نافلةٌ، وتقديم النّفل على الفرض غير جائزٍ، ولأنّ الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدّة نزاع النّفس إلى ما خرج منه، فيذهب ماله، ويبطل أجره، ويصير كلاًّ على النّاس‏.‏ أمّا من يعلم من نفسه حسن التّوكّل، والصّبر على الفقر، والتّعفّف عن المسألة، أو كان ذا مكسبٍ واثقاً من نفسه، فله أن يتصدّق بكلّ ماله عند الحاجة، ولا يعتبر هذا في حقّه إسرافاً‏.‏ لما روي أنّ أبا بكرٍ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكلّ ما عنده، فقال له‏:‏ «ما أبقيت لأهلك‏؟‏ قال‏:‏ أبقيت لهم اللّه ورسوله» فهذا كان فضيلةً في حقّ أبي بكرٍ، لقوّة يقينه وكمال إيمانه، وكان أيضاً تاجراً ذا مكسبٍ‏.‏

ب - الإسراف في الوصيّة‏:‏

11 - الوصيّة تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت بطريق التّبرّع، أو هي التّبرّع بالمال بعد الموت، وهي مستحبّةٌ بجزءٍ من المال لمن ترك خيراً في حقّ من لا يرث، وقد حدّد الشّرع حدودها بأن لا تزيد عن الثّلث، ورغّب في التّقليل من الثّلث، وذلك لتجنّب الإسراف، وإيقاع الضّرر بالورثة‏.‏

فإذا وجد للميّت وارثٌ، نفّذت الوصيّة في الثّلث، وبطلت في الزّائد منه اتّفاقاً إن لم يجزها الورثة، لحديث سعد بن أبي وقّاصٍ قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجعٍ اشتدّ بي، فقلت‏:‏ إنّي قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلاّ ابنةٌ، أفأتصدّق بثلثي مالي‏؟‏ قال‏:‏ لا، فقلت‏:‏ بالشّطر، فقال‏:‏ لا، ثمّ قال‏:‏ الثّلث، والثّلث كبيرٌ أو كثيرٌ، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس»‏.‏ فالثّلث هو الحدّ الأعلى في الوصيّة إذا كان للميّت وارثٌ، ولم يتّفقوا على الحدّ الأدنى، مع استحبابهم الأقلّ من الثّلث، وأن تكون الوصيّة للأقارب غير الوارثين، لتكون صدقةً وصلةً معاً‏.‏ وذكر صاحب المغني أنّ الأفضل للغنيّ الوصيّة بالخمس، ونحو ذلك يروى عن أبي بكرٍ وعليّ بن أبي طالبٍ أمّا إذا لم يكن للميّت وارثٌ، أو كان له وارثٌ وأجاز الزّيادة على الثّلث، ففيه خلافٌ وتفصيلٌ موضعه مصطلح ‏(‏وصيّةٌ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الإسراف في سفك دماء العدوّ في القتال

12 - الإسراف بمعنى مجاوزة الحدّ منهيٌّ عنه في كلّ حالةٍ، حتّى في المقابلة مع الأعداء في الجهاد والقتال، فالمسلم مأمورٌ بمراعاة القصد والاعتدال في جميع الأحوال، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين‏}‏ ويقول سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتّقوى‏}‏‏.‏

ولهذا صرّح الفقهاء بأنّه إن كان العدوّ ممّن لم تبلغهم الدّعوة لم يجز قتالهم، حتّى يدعوهم إلى الإسلام، ويكره نقل رءوس المشركين، على تفصيلٍ في ذلك، وتكره المثلة بقتلاهم وتعذيبهم‏.‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ أعفّ النّاس قتلةً أهل الإيمان»‏.‏

ولا يجوز قتل الصّبيان والمجانين بلا خلافٍ، ولا تقتل امرأةٌ ولا شيخٌ فانٍ، ولا يقتل زمنٌ ولا أعمى ولا راهبٌ عند الجمهور‏:‏ الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وروايةٍ عند الشّافعيّة، إلاّ إذا اشتركوا في المعركة، أو كانوا ذا رأيٍ وتدبيرٍ ومكايد في الحرب، أو أعانوا الكفّار بوجهٍ آخر ولا يجوز الغدر والغلول، ولا يجوز الإحراق بالنّار إن أمكن التّغلّب عليهم بدونها، ولا يجوز التّمثيل بالقتل، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» ويجوز معهم عقد الأمان والصّلح بمالٍ لو كان ذلك خيراً للمسلمين، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها‏}‏‏.‏ ولو حاصرناهم دعوناهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فيها، وإلاّ فرضنا عليهم الجزية إن لم يكونوا مرتدّين ولا من مشركي العرب، فإن قبلوا ذلك فلهم منّا المعاملة بالعدل والقسط على حسب شروط عقد الذّمّة، وإن أبوا قاتلناهم حتّى نغلبهم عنوةً‏.‏

وتفصيل هذه الأحكام ر‏:‏ ‏(‏جهادٌ‏)‏ ‏(‏وجزيةٌ‏)‏‏.‏

الإسراف في المباحات

أ - الإسراف في الطّعام والشّراب‏:‏

13 - الأكل والشّرب بقدر ما يندفع به الهلاك فرضٌ، وهو بقدر الشّبع مباحٌ، فإذا نوى بالشّبع ازدياد قوّة البدن على الطّاعة وأداء الواجبات فهو مندوبٌ، وما زاد على الشّبع فهو مكروهٌ أو محظورٌ، على الخلاف بين الفقهاء، إلاّ إذا قصد به التّقوّي على صوم الغد، أو لئلاّ يستحي الضّيف‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏‏.‏

فالإنسان مأمورٌ بأن يأكل ويشرب بحيث يتقوّى على أداء المطلوب، ولا يتعدّى إلى الحرام، ولا يكثر الإنفاق المستقبح، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرّه ولا يحتاج إليه، فإن تعدّى ذلك إلى ما يمنعه القيام بالواجب حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه، ولأنّه إضاعة المال وإمراض النّفس‏.‏ وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه»‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من السّرف أن تأكل كلّ ما اشتهيت»‏.‏

وقد نقل القرطبيّ في الحضّ على تقليل الطّعام ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «قال لأبي جحيفة حينما أتاه يتجشّأ‏:‏ اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة، فإنّ أكثر النّاس شبعاً في الدّنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة»‏.‏ وهذا القدر ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يطلب تخفيف المعدة بتقليل الطّعام والشّراب على قدرٍ لا يترتّب عليه ضررٌ ولا كسلٌ عن عبادةٍ، فقد يكون للشّبع سبباً في عبادةٍ فيجب، وقد يترتّب عليه ترك واجبٍ فيحرم، أو ترك مستحبٍّ فيكره‏.‏ وقال الغزاليّ‏:‏ صرف المال إلى الأطعمة النّفيسة الّتي لا يليق بحاله تبذيرٌ‏.‏ فيكون سبباً للحجر كما سيأتي‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ إنّ هذا هو أحد القولين عند الشّافعيّة، والقول الثّاني عندهم أنّه لا يعتبر تبذيراً ما لم يصرف في محرّمٍ، فيعتبر عندئذٍ إسرافاً وتبذيراً إجماعاً‏.‏

وصرف الحنابلة أنّ أكل المتخوم، أو الأكل المفضي إلى تخمةٍ سببٌ لمرضه وإفساد بدنه، وهو تضييع المال في غير فائدةٍ‏.‏ وقالوا‏:‏ لا بأس بالشّبع، لكن يكره الإسراف، والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحدّ، وهو من العدوان المحرّم‏.‏

ب - الإسراف في الملبس والزّينة‏:‏

14 - الإسراف في الملبس والزّينة ممنوعٌ، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «البسوا ما لم يخالطه إسرافٌ أو مخيلةٌ»‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ يلبس بين الخسيس والنّفيس، إذ خير الأمور أوسطها، وللنّهي عن الشّهرتين، وهو ما كان في نهاية النّفاسة أو الخساسة‏.‏ ويندب لبس الثّوب الجميل للتّزيّن في الأعياد والجمع ومجامع النّاس، لحديث ابن مسعودٍ مرفوعاً‏:‏ «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه ذرّةٌ من كبرٍ، قال رجلٌ‏:‏ إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال‏:‏ إنّ اللّه جميلٌ يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس»‏.‏

الإسراف في المهر‏:‏

15 - المهر يجب إمّا بالتّسمية أو بالعقد‏.‏ فإذا سمّي في العقد، وعّين مقداره، وجب المسمّى، وإلاّ وجب مهر المثل، وهذا متّفقٌ عليه بين الفقهاء‏.‏

ولم يحدّد الشّافعيّة والحنابلة، وكذلك المالكيّة في روايةٍ أقلّ المهر، وحدّد الحنفيّة أقلّ المهر بعشرة دراهم، وقال المالكيّة في المشهور عندهم‏:‏ أقلّه ربع دينارٍ شرعيٍّ، أو ثلاثة دراهم فضّةً خالصةً‏.‏ ولا حدّ لأكثر المهر إجماعاً بين الفقهاء‏.‏ والدّليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً‏}‏‏.‏ لأنّ القنطار يطلق على المال الكثير‏.‏

ولكن حذّر الفقهاء من الإسراف والمغالاة في المهر، وقالوا‏:‏ تكره المغالاة في الصّداق، لما روي عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «أعظم النّساء بركةً أيسرهنّ مؤنةً» وفسّروا المغالاة في المهر بما خرج عن عادة أمثال الزّوجة، وهي تختلف باختلاف أمثالها، إذ المائة قد تكون كثيرةً جدّاً بالنّسبة لامرأةٍ، وقليلةً جدّاً بالنّسبة لأخرى‏.‏ واستدلّوا كذلك بكراهة الإسراف في المهر بأنّ الرّجل يغلي بصدقة المرأة ‏(‏أي فوق طاقته‏)‏، حتّى يكون لها عداوةٌ في قلبه، ولأنّه إذا كثر بما تعذّر عليه فيتعرّض للضّرر في الدّنيا والآخرة‏.‏ ولتفصيل الموضوع راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏مهرٌ‏)‏‏.‏

الإسراف في التّكفين والتّجهيز

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الكفن هو الثّوب الواحد‏.‏ والإيتار فيه إلى ثلاثٍ للرّجل، وإلى خمسٍ للمرأة سنّةٌ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثوابٍ يمانيّةٍ بيضٍ سحوليّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «أعطى اللّواتي غسّلن ابنته خمسة أثوابٍ» ولأنّ عدد الثّلاث أكثر ما يلبسه الرّجل في حياته، فكذا بعد مماته، والمرأة تزيد في حال حياتها على الرّجل في السّتر، لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت‏.‏

وتكره الزّيادة على الأثواب الثّلاثة للرّجل، والخمسة للمرأة عند الجمهور‏:‏ الشّافعيّة، والحنابلة، وروايةٍ عند الحنفيّة، لما فيها من الإسراف وإضاعة المال المنهيّ عنهما، وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا تغالوا في الكفن، فإنّه يسلب سلباً سريعاً» وما روى عنه صلى الله عليه وسلم في تحسين الكفن‏:‏ «إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه»‏.‏ معناه بياضه ونظافته، لا كونه ثميناً حليةً‏.‏

ولا بأس عند المالكيّة بالزّيادة إلى خمسةٍ في الرّجل، وإلى سبعةٍ في المرأة، وقالوا‏:‏ إنّ الزّيادة على الخمسة في الرّجل، والسّبعة في المرأة إسرافٌ، وثلاثةٌ أولى من أربعةٍ، وخمسةٌ أولى من ستّةٍ‏.‏ فعلم من ذلك أنّ الإسراف محظورٌ في الكفن في جميع المذاهب‏.‏ والقاعدة في ذلك أنّ الكفن يكون وفقاً لما يلبسه الميّت حال حياته عادةً‏.‏

وينظر تفصيل هذا الموضوع في مصطلح ‏(‏كفنٌ‏)‏‏.‏

الإسراف في المحرّمات

17 - المحظور في اصطلاح الفقهاء‏:‏ هو ما منع من استعماله شرعاً، ويشمل بالمعنى الأعمّ الحرام والمكروه كراهة تحريمٍ، فالمحظورات بهذا المعنى هي الممنوعات الشّرعيّة الّتي توجب العقاب‏.‏ وارتكاب المحرّمات يعتبر بنفسه إسرافاً، لأنّه مجاوزة الحدّ المشروع‏.‏ يقول الرّازيّ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا‏}‏‏:‏ الإسراف في كلّ شيءٍ الإفراط فيه، والمراد هنا الذّنوب العظيمة الكبيرة‏.‏ قال أبو حيّان الأندلسيّ‏:‏ ‏(‏ذنوبنا وإسرافنا‏)‏ متقاربان من حيث المعنى، فجاء ذلك على سبيل التّأكيد‏.‏ وقيل‏:‏ الذّنوب ما دون الكبائر‏.‏ ثمّ إنّ المبالغة في ارتكاب الممنوع توجب تشديد العقاب، فالعقوبة بقدر الجريمة، كما قرّره الفقهاء، والإصرار على الصّغيرة وإدامتها يأخذ حكم الكبيرة في إسقاط العدالة، فلا تقبل شهادة من كثرت صغائره وأصرّ عليها‏.‏

18 - لكن هناك حالاتٌ خاصّةٌ يجوز للشّخص الإتيان بالمحرّم، بشرط ألاّ يسرف أي لا يجاوز الحدّ المشروع وذلك مثل‏:‏

أ - حالة الإكراه‏:‏ كما إذا أجبر شخصٌ آخر بأكل أو شرب ما حرّم اللّه، كالميتة والدّم والخمر وغيرها‏.‏

ب - حالة الاضطرار‏:‏ كما إذا وجد الشّخص في حالةٍ لو لم يتناول المحرّم هلك، ولا تكون للخروج عن هذه الحالة وسيلةٌ أخرى، كحالة الجوع والعطش الشّديدين‏.‏

ففي هذه الحالات يجوز اتّفاقاً - بل يجب عند الأكثر - أكل ما حرّم اللّه من الميتة والدّم والأموال المحرّمة، بشرط ألاّ يسرف الآكل والشّارب، ولا يتجاوز الحدود الشّرعيّة المقرّرة الّتي سيأتي تفصيلها‏.‏ وتتّفق حالة الإكراه مع حالة الاضطرار في الحكم، ولكنّهما تختلفان في سبب الفعل، ففي الإكراه يدفع المكره إلى إتيان الفعل المحرّم شخصٌ آخر ويجبره على العمل، أمّا في حالة الاضطرار فيوجد الفاعل في ظروفٍ تقتضي الخروج منها، أن يرتكب الفعل المحرّم لينجي نفسه‏.‏ وبهذا نكتفي بذكر حكم الإسراف في حالة الاضطرار فقط‏.‏

19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ يجوز له الانتفاع بالمحرّم، ولو كان ميتةً أو دماً أو لحم خنزيرٍ أو مال الغير، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه‏}‏ لكنّ الأكل والشّرب من المحرّم حال الاضطرار محدودٌ بحدودٍ لا يجوز التّجاوز عنها والإسراف فيها، وإلاّ يعتبر مسيئاً وآثماً‏.‏

والجمهور‏:‏ الحنفيّة، والحنابلة، وهو قولٌ عند الشّافعيّة، ذهبوا إلى أنّ مقدار ما يجوز للمضطرّ أكله أو شربه من المحرّم هو ما يسدّ الرّمق، فمن زاد عن هذا المقدار يعتبر مجاوزاً للحدّ‏.‏ فلا يجوز له الأكل إلى حدّ الشّبع والتّزوّد بالمحرّم، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قيّد جواز الانتفاع بالمحرّم في حالة الاضطرار بقوله‏:‏ ‏{‏غير باغٍ ولا عادٍ‏}‏، والمراد ألاّ يكون المضطرّ باغياً في أكل المحرّم تلذّذاً، ولا متعدّياً بالحدّ المشروع، فيكون مسرفاً في الأكل إذا تناول منها أكثر من المقدار الّذي يمسك الرّمق، فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضّرر في الحال فقد زالت الضّرورة، ولا اعتبار في ذلك لسدّ الجوعة، لأنّ الجوع في الابتلاء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه‏.‏

ومذهب المالكيّة، وهو قولٌ عند الشّافعيّة، وروايةٌ عن أحمد، أنّ للمضطرّ أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشّبع إذا لم يوجد غيرها، لأنّ ما جاز سدّ الرّمق به جاز الشّبع منه كالمباح، بل المالكيّة جوّزوا التّزوّد من الميتة، وقالوا‏:‏ إنّه يأكل منها حتّى يشبع، ويتزوّد منها، فإن وجد عنها غنًى طرحها، لأنّ المضطرّ ليس ممّن حرمت عليه الميتة، فإذا كانت حلالاً له الأكل منها ما شاء، حتّى يجد غيرها فتحرم عليه، وجواز التّزوّد للمضطرّ من لحم الميتة روايةٌ عند الحنابلة‏.‏ وعلى ذلك فالأكل إلى حدّ الشّبع لا يعتبر إسرافاً عند هؤلاء، كما أنّ التّزوّد من الميتة لا يعدّ إسرافاً عند المالكيّة، وفي روايةٍ عند الحنابلة‏.‏

ولتفصيل الموضوع ر‏:‏ ‏(‏اضطرارٌ‏)‏‏.‏

الإسراف في العقوبة

20 - الأصل في الشّريعة أنّ العقوبة بقدر الجريمة، قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ فلا تجوز فيها الزّيادة والإسراف قطعاً، لأنّ الزّيادة تعتبر تعدّياً منهيّاً عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين‏}‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - الإسراف في القصاص‏:‏

21 - اتّفق الفقهاء على أنّ مبنى القصاص على المساواة، فلا يجوز فيه الإسراف والزّيادة‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنّه كان منصوراً‏}‏ قال المفسّرون في تفسير هذه الآية‏:‏ لا يسرف في القتل أي لا يتجاوز الحدّ المشروع فيه، فلا يقتل غير قاتله، ولا يمثّل بالقاتل كعادة الجاهليّة، لأنّهم كانوا إذا قتل منهم واحدٌ قتلوا به جماعةً، وإذا قتل من ليس شريفاً لم يقتلوه، وقتلوا به شريفاً من قومه، فنهي عن ذلك‏.‏

22 - وصرّح الفقهاء أنّه إذا وجب القصاص على حاملٍ لم تقتل حتّى تضع حملها، وإذا وضعت لم تقتل حتّى تسقي ولدها اللّبأ، فإن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتّى يجيء أوان فطامه، لما ورد في الحديث‏:‏ «إذا قتلت المرأة عمداً لم تقتل حتّى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً، وحتّى تكفل ولدها»‏.‏ ولأنّ في قتل الحامل قتلاً لولدها، فيكون إسرافاً في القتل، واللّه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏فلا يسرف في القتل‏}‏، ولأنّ في القصاص من الحامل قتلاً لغير الجاني وهو محرّمٌ، إذ ‏{‏لا تزر وازرةٌ وزر أخرى‏}‏‏.‏

23 - ونشترط المماثلة في قصاص الأعضاء في المحلّ والمقدار والصّفة، بألاّ يكون العضو المقتصّ منه أحسن حالاً من العضو التّالف، وإلاّ يعتبر إسرافاً منهيّاً عنه، فلا تؤخذ يدٌ صحيحةٌ بيدٍ شلاّء، ولا رجلٌ صحيحةٌ برجلٍ شلاّء، ولا تؤخذ يدٌ كاملةٌ بيدٍ ناقصةٍ، لأنّه ليس للمجنيّ عليه أن يأخذ فوق حقّه، ولو وجب له قصاصٌ في أنملةٍ فقطع أنملتين، فإن كان عامداً وجب عليه القصاص في الزّيادة، وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏

24 - ولكي يؤمن الإسراف والتّعدّي، صرّح الفقهاء أنّه لا يستوفى القصاص فيما دون النّفس إلاّ بحضرة السّلطان أو نائبه، لأنّه يفتقر إلى اجتهاده، ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التّشفّي، ويلزم وليّ الأمر تفقّد آلة الاستيفاء، والأمر بضبط المقتصّ منه في غير النّفس، حذراً من الزّيادة واضطرابه، وإذا سلّم الحاكم القاتل لوليّ الدّم ليقتله نهى الحاكم الوليّ عن التّمثيل بالقاتل والتّشديد عليه في قتله‏.‏

وفي قصاص الأطراف يشترط إمكان الاستيفاء من غير حيفٍ ولا زيادةٍ، بأن يكون القطع من مفصلٍ، فإن كان القطع من غير مفصلٍ فلا قصاص فيه من موضع القطع، حذراً من الإسراف‏.‏ ولأنّ الجرح الّذي يمكن استيفاء القصاص فيه من غير حيفٍ ولا زيادةٍ هو كلّ جرحٍ ينتهي إلى عظمٍ كالموضحة، اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ فيها القصاص، واتّفقوا كذلك على عدم القصاص فيما بعد الموضحة لأنّه يعظم فيه الخطر، أمّا في غيرها من الجروح فاختلفوا في ذلك، لاحتمال الزّيادة والحيف خوفاً من الإسراف، ولو زاد المقتصّ عمداً في موضحةٍ على حقّه لزمه قصاص الزّيادة لتعمّده، كما نصّوا على ذلك‏.‏

وتفصيل هذه المسائل في مصطلح ‏(‏قصاصٌ‏)‏‏.‏

ب - الإسراف في الحدود‏:‏

25 - الحدّ عقوبةٌ مقدّرةٌ واجبةٌ حقّاً للّه‏.‏ والمراد بالعقوبة المقدّرة‏:‏ أنّها معيّنةٌ ومحدّدةٌ لا تقبل الزّيادة والنّقصان، فحدّ من سرق ربع دينارٍ أو مائة ألف دينارٍ واحدٌ‏.‏ ومعنى أنّها حقّ اللّه تعالى‏:‏ أنّها لا تقبل العفو والإسقاط بعد ثبوتها، ولا يمكن استبدال عقوبةٍ أخرى بها، لأنّها ثبتت بالأدلّة القطعيّة، فلا يجوز فيها التّعدّي والإسراف، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏ ولهذا صرّح الفقهاء بأنّه لا يقام الحدّ على الحامل، لأنّ فيه هلاك الجنين بغير حقٍّ، وهذا إسرافٌ بلا شكٍّ‏.‏ ويشترط في الحدود الّتي عقوبتها الجلد، كالقذف والشّرب والزّنى في حالة عدم الإحصان ألاّ يكون في الجلد خوف الهلاك، لأنّ هذا الحدّ شرع زاجراً لا مهلكاً، ويكون الضّرب وسطاً، لا مبرّحاً ولا خفيفاً، ولا يجمع في عضوٍ واحدٍ، ويتّقي المقاتل، وهي الرّأس والوجه والفرج، لما فيها من خوف الهلاك، وينبغي أن يكون الجلاّد عاقلاً بصيراً بأمر الضّرب، وذلك كلّه للتّحرّز عن التّعدّي والإسراف‏.‏

فإن أتى بالحدّ على الوجه المشروع من غير زيادةٍ وإسرافٍ لا يضمن من تلف به، وهذا معنى قولهم‏:‏ إنّ إقامة الحدّ غير مشروطةٍ بالسّلامة، أمّا إذا أسرف وزاد على الحدّ فتلف المحدود وجب الضّمان بالاتّفاق‏.‏ وينظر تفصيل هذه المسائل في مواضعها‏.‏

ج - الإسراف في التّعزير‏:‏

26 - التّعزير هو‏:‏ التّأديب على ذنوبٍ لم يشرع فيها حدٌّ ولا كفّارةٌ‏.‏ وهو عقوبةٌ غير مقدّرةٍ تختلف باختلاف الجناية وأحوال النّاس، فتقدّر بقدر الجناية، ومقدار ما ينزجر به الجاني، ومن النّاس من ينزجر باليسير، ومنهم من لا ينزجر إلاّ بالكثير، ولهذا قرّر الفقهاء في الضّرب للتّأديب ألاّ يكون مبرّحاً، ولا يكون على الوجه، ولا على المواضع المخوفة، وأن يكون ممّا يعتبر مثله تأديباً، فإنّ المقصود منه الصّلاح لا غير، فإن غلب على ظنّه أنّ الضّرب لا يفيد إلاّ أن يكون مخوفاً لم يجز التّعزير بالضّرب، وإلاّ كان ضامناً بلا خلافٍ، لأنّ الضّرب غير المعتاد، والّذي لا يعتبر مثله أدباً تعدٍّ وإسرافٌ فيوجب الضّمان‏.‏

27 - أمّا إذا ضرب للتّأديب على النّحو المشروع من غير إسرافٍ - كما فسّره الرّمليّ - بأن يكون الضّرب معتاداً كمّاً وكيفاً ومحلاًّ - كما عبّر الطّحطاويّ - فتلف، كضرب الزّوج زوجته لنشوزها، فتلفت من التّأديب المشروع، لا يضمن عند المالكيّة والحنابلة، ويضمن عن التّلف عند الحنفيّة والشّافعيّة ولو كان الضّرب معتاداً، لأنّ التّأديب حقٌّ، واستعمال الحقّ يقيّد بالسّلامة عندهما، ولا يقيّد بها عند المالكيّة والحنابلة، كما هو مبيّنٌ في موضعها‏.‏ وأكثر الفقهاء ‏(‏منهم أبو حنيفة، ومحمّدٌ، والشّافعيّ في الأصحّ، وأحمد في روايةٍ‏)‏ على أنّ عقوبة الجلد في التّعزير لا تتجاوز تسعةً وثلاثين سوطاً، لما ورد في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من بلغ حدّاً في غير حدٍّ فهو من المعتدين»‏.‏ لأنّ الأربعين حدٌّ كاملٌ للرّقيق، فإذا نقضت سوطاً أصبح الحدّ الأعلى للتّعزير تسعةً وثلاثين، وقيّد بعضهم هذا فيما يكون في جنسه حدٌّ‏.‏

وفي روايةٍ عن أحمد، وهو قول ابن وهبٍ من المالكيّة، أنّه لا يزاد على عشر جلداتٍ، وقال ابن قدامة نقلاً عن القاضي‏:‏ إنّ هذا هو المذهب‏.‏ ويفوّض مقداره مطلقاً - وإن زائداً على الحدّ - للحاكم بشرط ألاّ يتجاوز عمّا يكفي لزجر الجاني عند المالكيّة‏.‏ وليس لأقلّ التّعزير حدٌّ معيّنٌ في الرّاجح عند الفقهاء، فلو رأى القاضي أنّه ينزجر بسوطٍ واحدٍ اكتفى به، فلا يجوز الإسراف والزّيادة في التّعزير على مقدار ما ينزجر به المجرم في المذاهب كلّها‏.‏

الحجر على المسرف

28 - المسرف في الأموال يعتبر سفيهاً عند الفقهاء، لأنّه يبذّر الأموال ويضيّعها على خلاف مقتضى الشّرع والعقل، وهذا هو معنى السّفه عندهم‏.‏ ولهذا جرى على لسان الفقهاء‏:‏ أنّ السّفه هو التّبذير، والسّفيه هو المبذّر‏.‏ وعلى ذلك فالإسراف النّاشئ عن السّفه سببٌ للحجر عند جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو رأي الصّاحبين‏:‏ أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة، وعليه الفتوى عندهم خلافاً لأبي حنيفة، فلا يحجر على المكلّف لسبب السّفه والتّبذير‏.‏ ولتفصيل ذلك انظر مصطلح ‏(‏حجرٌ‏)‏‏.‏

أسرى

التعريف

1 - الأسرى جمع أسيرٍ، ويجمع أيضاً على أسارى وأسارى‏.‏

والأسير لغةً‏:‏ مأخوذٌ من الإسار، وهو القيد، لأنّهم كانوا يشدّونه بالقيد‏.‏ فسمّي كلّ أخيذٍ أسيراً وإن لم يشدّ به‏.‏ وكلّ محبوسٍ في قيدٍ أو سجنٍ أسيرٌ‏.‏ قال مجاهدٌ في تفسير قول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً‏}‏ الأسير‏:‏ المسجون‏.‏

2 - وفي الاصطلاح‏:‏ عرّف الماورديّ الأسرى بأنّهم‏:‏ الرّجال المقاتلون من الكفّار، إذا ظفر المسلمون بهم أحياءً‏.‏ وهو تعريفٌ أغلبيٌّ، لاختصاصه بأسرى الحربيّين عند القتال، لأنّه بتتبّع استعمالات الفقهاء لهذا اللّفظ يتبيّن أنّهم يطلقونه على كلّ من يظفر بهم من المقاتلين ومن في حكمهم، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حربٍ فعليّةٍ، ما دام العداء قائماً والحرب محتملةٌ‏.‏

من ذلك قول ابن تيميّة‏:‏ أوجبت الشّريعة قتال الكفّار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أسر الرّجل منهم في القتال أو غير القتال، مثل أن تلقيه السّفينة إلينا، أو يضلّ الطّريق، أو يؤخذ بحيلةٍ فإنّه يفعل به الإمام الأصلح‏.‏ وفي المغني‏:‏ هو لمن أخذه، وقيل‏:‏ يكون فيئاً‏.‏ ويطلق الفقهاء لفظ الأسير أيضاً على‏:‏ من يظفر به المسلمون من الحربيّين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمانٍ، وعلى من يظفرون به من المرتدّين عند مقاتلتهم لنا‏.‏ يقول ابن تيميّة‏:‏ ومن أسر منهم أقيم عليه الحدّ‏.‏ كما يطلقون لفظ الأسير على‏:‏ المسلم الّذي ظفر به العدوّ‏.‏ يقول ابن رشدٍ‏:‏ وجب على الإمام أن يفكّ أسرى المسلمين من بيت المال‏.‏‏.‏‏.‏ ويقول‏:‏ وإذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين، وأطفالٌ من المسلمين‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّهينة‏:‏

3 - الرّهينة‏:‏ واحدة الرّهائن وهي كلّ ما احتبس بشيءٍ، والأسير والرّهينة كلاهما محتبسٌ، إلاّ أنّ الأسير يتعيّن أن يكون إنساناً، واحتباسه لا يلزم أن يكون مقابل حقٍّ‏.‏

ب - الحبس‏:‏

4 - الحبس‏:‏ ضدّ التّخلية، والمحبوس‏:‏ الممسك عن التّوجّه حيث يشاء، فالحبس أعمّ من الأسر‏.‏

ج - السّبي‏:‏

5 - السّبي والسّباء‏:‏ الأسر، فالسّبي أخذ النّاس عبيداً وإماءً، والفقهاء يطلقون لفظ السّبي على من يظفر به المسلمون حيّاً من نساء أهل الحرب وأطفالهم‏.‏ ويخصّصون لفظ الأسرى - عند مقابلته بلفظ السّبايا - بالرّجال المقاتلين، إذا ظفر المسلمون بهم أحياءً‏.‏

صفة الأسر‏:‏ حكمه التّكليفي

6 - الأسر مشروعٌ، ويدلّ على مشروعيّته النّصوص الواردة في ذلك، ومنها قول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ولا يتنافى ذلك مع قول اللّه تعالى ‏{‏ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض‏}‏ لأنّها لم ترد في منع الأسر مطلقاً، وإنّما جاءت في الحثّ على القتال، وأنّه ما كان ينبغي أن يكون للمسلمين أسرى قبل الإثخان في الأرض، أي المبالغة في قتل الكفّار‏.‏

الحكمة من مشروعيّة الأسر

7 - هي كسر شوكة العدوّ، ودفع شرّه، وإبعاده عن ساحة القتال، لمنع فاعليّته وأذاه، وليمكن افتكاك أسرى المسلمين به‏.‏

من يجوز أسرهم ومن لا يجوز

8 - يجوز أسر كلّ من وقع في يد المسلمين من الحربيّين، صبيّاً كان أو شابّاً أو شيخاً أو امرأةً، الأصحّاء منهم والمرضى، إلاّ من لا يخشى من تركه ضررٌ وتعذّر نقله، فإنّه لا يجوز أسره على تفصيلٍ بين المذاهب في ذلك‏.‏

فمذهب الحنفيّة والحنابلة، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يؤسر من لا ضرر منهم، ولا فائدة في أسرهم، كالشّيخ الفاني والزّمن والأعمى والرّاهب إذا كانوا ممّن لا رأي لهم‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّ كلّ من لا يقتل يجوز أسره، إلاّ الرّاهب والرّاهبة إذا لم يكن لهما رأيٌ فإنّهما لا يؤسران، وأمّا غيرهما من المعتوه والشّيخ الفاني والزّمن والأعمى فإنّهم وإن حرم قتلهم يجز أسرهم، ويجوز تركهم من غير قتلٍ ومن غير أسرٍ‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّه يجوز أسر الجميع دون استثناءٍ‏.‏

9 - ولا يجوز أسر أحدٍ من دار الكفر إذا كان بين المسلمين وبينها عهد موادعةٍ، لأنّ عقد الموادعة أفاد الأمان، وبالأمان لا تصير الدّار مستباحةً، وحتّى لو خرج قومٌ من الموادعين إلى بلدةٍ أخرى ليس بينهم وبين المسلمين موادعةٌ، فغزا المسلمون تلك البلدة، فهؤلاء آمنون، لا سبيل لأحدٍ عليهم، لأنّ عقد الموادعة أفاد الأمان لهم، فلا ينتقض بالخروج إلى موضعٍ آخر‏.‏ وكذا لو دخل في دار الموادعة رجلٌ من غير دارهم بأمانٍ، ثمّ خرج إلى دار الإسلام بغير أمانٍ، فهو آمنٌ لا يجوز أسره، لأنّه لمّا دخل دار الموادعين بأمانهم صار كواحدٍ منهم‏.‏ ومثله ما لو وجد الحربيّ بدار الإسلام بأمانٍ فإنّه لا يجوز أسره، وما لو أخذ الحربيّ الأمان من المسلمين وهو في حصن الحربيّين‏.‏

الأسير في يد آسره ومدى سلطانه عليه

10 - الأسير في ذمّة آسره لا يد له عليه، ولا حقّ له في التّصرّف فيه، إذ الحقّ للتّصرّف فيه موكولٌ للإمام، وعليه بعد الأسر أن يقوده إلى الأمير ليقضي فيه بما يرى، وللآسر أن يشدّ وثاقه إن خاف انفلاته، أو لم يأمن شرّه، كما يجوز عصب عينيه أثناء نقله لمنعه من الهرب‏.‏ فمن حقّ المسلم أن يمنع الأسير من الهرب، وإذا لم يجد فرصةً لمنعه إلاّ قتله فلا بأس، وقد فعل هذا غير واحدٍ من الصّحابة‏.‏

11 - وجمهور الفقهاء على أنّ الأسير إذا صار في يد الإمام فلا استحقاق للآسر فيه إلاّ بتنفيل الإمام، لا بنفس الأسر، وذلك بأن ينادي في العسكر‏:‏ من أصاب منكم أسيراً فهو له، فإن قال ذلك فأعتق الرّجل أسيره فإنّه ينفذ عتقه‏.‏ ولو أصاب ذا رحمٍ محرمٍ منه عتق، لأنّه إذا ثبت الاستحقاق لهم بالإصابة صار الأسير مملوكاً لآسره واحداً أو جماعةً‏.‏ بل قالوا‏:‏ لو قال الأمير‏:‏ من قتل قتيلاً فله سلبه‏.‏ فأسر العسكر بعض الأسرى، ثمّ قتل أحد الأسراء رجلاً من العدوّ، كان السّلب من الغنيمة، إن لم يقسّم الأمير الأسراء، وإن كان قسمهم أو باعهم فالسّلب لمولى الأسير القاتل‏.‏ وقد فرّق المالكيّة بين من أسر أسيراً أثناء القتال مستنداً إلى قوّة الجيش، وبين من أسر أسيراً من غير حربٍ، وقالوا‏:‏ إن كان الآسر من الجيش، أو مستنداً له خمسٌ كسائر الغنيمة، وإلاّ اختصّ به الآسر‏.‏

حكم قتل الآسر أسيره

12 - ليس لواحدٍ من الغزاة أن يقتل أسيره بنفسه، إذ الأمر فيه بعد الأسر مفوّضٌ للإمام، فلا يحلّ القتل إلاّ برأي الإمام اتّفاقاً، إلاّ إذا خيف ضرره، فحينئذٍ يجوز قتله قبل أن يؤتى به إلى الإمام، وليس لغير من أسره قتله، لحديث جابرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه فيقتله»‏.‏

فلو قتل رجلٌ من المسلمين أسيراً في دار الحرب أو في دار الإسلام، فالحنفيّة يفرّقون بين ما إذا كان قبل القسمة أو بعدها، فإن كان قبل القسمة فلا شيء فيه من ديةٍ أو كفّارةٍ أو قيمةٍ، لأنّ دمه غير معصومٍ، إذ للإمام فيه خيرة القتل، ومع هذا فهو مكروهٌ، وإن كان بعد القسمة، أو بعد البيع فيراعى فيه حكم القتل، لأنّ دمه صار معصوماً، فكان مضموناً بالقتل، إلاّ أنّه لا يجب القصاص لقيام الشّبهة‏.‏ ولم يفرّقوا في ذلك بين ما إذا كان هو الآسر أو غيره كما يفيده الإطلاق‏.‏ والمالكيّة يتّجهون وجهة الحنفيّة من ناحية الضّمان، غير أنّهم جعلوا التّفرقة فيما إذا كان القتل في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم، أو بعد أن صار مغنماً، وينصّون على أنّ من قتل من نهي عن قتله، فإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم فليستغفر اللّه، وإن قتله بعد أن صار مغنماً فعليه قيمته‏.‏

والشّافعيّة أيضاً يلزمون القاتل بالضّمان، فإذا كان بعد اختيار رقّه ضمن قيمته، وكان في الغنيمة‏.‏ وإذا كان بعد المنّ عليه لزمه ديته لورثته‏.‏ وإن قتله بعد الفداء فعليه ديته غنيمةً، إن لم يكن قبض الإمام الفداء، وإلاّ فديته لورثته‏.‏ وإن قتله بعد اختيار الإمام قتله فلا شيء عليه، وإن كان قبله عزّر‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إن قتل أسيره أو أسير غيره قبل الذّهاب للإمام أساء، ولم يلزمه ضمانه‏.‏

معاملة الأسير قبل نقله لدار الإسلام

13 - مبادئ الإسلام تدعو إلى الرّفق بالأسرى، وتوفير الطّعام والشّراب والكساء لهم، واحترام آدميّتهم، لقوله تعالى ‏{‏ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينا ويتيماً وأسيراً‏}‏، وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في أسرى بني قريظة بعدما احترق النّهار في يومٍ صائفٍ‏:‏ «أحسنوا إسارهم، وقيّلوهم، واسقوهم» وقال‏:‏ «لا تجمعوا عليهم حرّ هذا اليوم وحرّ السّلاح‏.‏‏.‏‏.‏» وقال الفقهاء‏:‏ إن رأى الإمام قتل الأسارى فينبغي له ألاّ يعذّبهم بالعطش والجوع، ولكنّه يقتلهم قتلاً كريماً‏.‏ ويجوز حبس الأسرى في أيّ مكان، ليؤمن منعهم من الفرار، فقد جاء في الصّحيحين أنّ «الرّسول حبس في مسجد المدينة»

التّصرّف في الأسرى قبل نقلهم لدار الإسلام

14 - يرى جمهور الفقهاء جواز التّصرّف في الغنائم - ومنها الأسرى في دار الحرب - وقبل نقلهم لدار الإسلام‏.‏ قال مالكٌ‏:‏ الشّأن أن تقسم الغنائم وتباع ببلد الحرب، وروى الأوزاعيّ أنّ رسول اللّه والخلفاء لم يقسموا غنيمةً قطّ إلاّ في دار الشّرك، قال أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه‏:‏ «خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة المصطلق، فأصبنا سبياً من سبي العرب، فاشتهينا النّساء، واشتدّت علينا وأحببنا العزل، فأردنا العزل وقلنا‏:‏ نعزل ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال‏:‏ ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلاّ وهي كائنةٌ» فإنّ سؤالهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن العزل في وطء السّبايا دليلٌ على أنّ قسمة الغنائم قد تمّت في دار الحرب، ولما في ذلك من تعجيل مسرّة الغانمين وغيظ الكافرين، ويكره تأخيره لبلد الإسلام، وهذا إذا كان الغانمون جيشاً وأمنوا من كرّ العدوّ عليهم‏.‏

وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ للغانمين التّملّك قبل القسمة لفظاً، بأن يقول كلٌّ بعد الحيازة، وقبل القسمة‏:‏ اخترت ملك نصيبي، فتملّك بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ يملكون بمجرّد الحيازة، لزوال ملك الكفّار بالاستيلاء‏.‏ وقيل‏:‏ الملك موقوفٌ‏.‏ والمراد عند من قال يملكون بمجرّد الحيازة‏:‏ الاختصاص، أي يختصمون‏.‏

وصرّح الحنابلة بجواز قسمة الغنائم في دار الحرب، وهو قول الأوزاعيّ وابن المنذر وأبي ثورٍ لفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم ولأنّ الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء‏.‏

15 - وعند الحنفيّة لا تقسم الغنائم إلاّ في دار الإسلام، لأنّ الملك لا يتمّ عليها إلاّ بالاستيلاء التّامّ، ولا يحصل إلاّ بإحرازها في دار الإسلام، لأنّ سبب ثبوت الحقّ القهر، وهو موجودٌ من وجهٍ دون وجهٍ، لأنّهم قاهرون يداً مقهورون داراً، فلا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم - ومنها الأسرى - أو يبيعها حتّى يخرجها إلى دار الإسلام، خشية تقليل الرّغبة في لحوق المدد بالجيش، وتعرّض المسلمين لوقوع الدّبرة عليهم، بأن يتفرّقوا ويستقلّ كلّ واحدٍ منهم بحمل نصيبه‏.‏ ومع هذا فقالوا‏:‏ وإن قسم الإمام الغنائم في دار الحرب جاز، لأنّه أمضى فصلاً مختلفاً فيه بالاجتهاد‏.‏ وقد روي أنّ «الرّسول صلى الله عليه وسلم أخّر قسمة غنائم حنينٍ حتّى انصرف إلى الجعرانة»‏.‏

تأمين الأسير

16 - يتّفق الفقهاء على أنّه يحقّ للإمام إعطاء الأمان للأسير بعد الاستيلاء عليه، لأنّ عمر لمّا قدم عليه بالهرمزان أسيراً قال‏:‏‏"‏ لا بأس عليك، ثمّ أراد قتله، فقال له أنسٌ‏:‏ قد أمّنته فلا سبيل لك عليه، وشهد الزّبير بذلك ‏"‏فعدّوه أماناً، ولأنّ للإمام أن يمنّ عليه، والأمان دون المنّ، ولا ينبغي للإمام أن يتصرّف على حكم التّمنّي والتّشهّي دون مصلحة المسلمين، فما عقده أمير الجيش من الأمان جاز ولزم الوفاء به، وأمّا آحاد الرّعيّة فليس لهم ذلك، لأنّ أمر الأسير مفوّضٌ إلى الإمام، فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنع ذلك كقتله‏.‏ وذكر أبو الخطّاب أنّه يصحّ أمان آحاد الرّعيّة، لأنّ «زينب بنت الرّسول صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الرّبيع بعد أسره، فأجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمانها»‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏أمانٌ‏)‏‏.‏

حكم الإمام في الأسرى

17 - يرجع الأمر في أسرى الحربيّين إلى الإمام، أو من ينيبه عنه‏.‏

وجعل جمهور الفقهاء مصائر الأسرى بعد ذلك، وقبل إجراء قسمة الغنائم بين الغانمين، في أحد أمورٍ‏:‏ فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على تخيير الإمام في الرّجال البالغين من أسرى الكفّار، بين قتلهم، أو استرقاقهم، أو المنّ عليهم، أو مفاداتهم بمالٍ أو نفسٍ‏.‏

أمّا الحنفيّة فقد قصروا التّخيير على ثلاثة أمورٍ فقط‏:‏ القتل، والاسترقاق، والمنّ عليهم بجعلهم أهل ذمّةٍ على الجزية، ولم يجيزوا المنّ عليهم دون قيدٍ، ولا الفداء بالمال إلاّ عند محمّد بن الحسن بالنّسبة للشّيخ الكبير، أو إذا كان المسلمون بحاجةٍ للمال‏.‏ وأمّا مفاداتهم بأسرى المسلمين فموضع خلافٍ عندهم‏.‏

وذهب مالكٌ إلى أنّ الإمام يخيّر في الأسرى بين خمسة أشياء‏:‏ فإمّا أن يقتل، وإمّا أن يسترقّ، وإمّا أن يعتق، وإمّا أن يأخذ فيه الفداء، وإمّا أن يعقد عليه الذّمّة ويضرب عليه الجزية، والإمام مقيّدٌ في اختياره بما يحقّق مصلحة الجماعة‏.‏

18 - ويتّفق الفقهاء على أنّ الأصل في السّبايا من النّساء والصّبيّة أنّهم لا يقتلون‏.‏ ففي الشّرح الكبير للدّردير‏:‏ وأمّا النّساء والذّراريّ فليس فيهم إلاّ الاسترقاق أو الفداء‏.‏ وتفصيله في ‏(‏سبيٌ‏)‏‏.‏ كما يتّفقون على أنّ الأسير الحربيّ الّذي أعلن إسلامه قبل القسمة، لا يحقّ للإمام قتله، لأنّ الإسلام عاصمٌ لدمه على ما سيأتي‏.‏

19 - ويقول الشّافعيّة‏:‏ إن خفي على الإمام أو أمير الجيش الأحظّ حبسهم حتّى يظهر له، لأنّه راجعٌ إلى الاجتهاد، ويصرّح ابن رشدٍ بأنّ هذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، إذا لم يكن يوجد تأمينٌ لهم‏.‏

20 - وقال قومٌ‏:‏ لا يجوز قتل الأسير، وحكى الحسن بن محمّدٍ التّميميّ أنّه إجماع الصّحابة‏.‏ والسّبب في الاختلاف تعارض الآية في هذا المعنى، وتعارض الأفعال، ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام، لأنّ ظاهر قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب‏}‏ أنّه ليس للإمام بعد الأسر إلاّ المنّ أو الفداء‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض‏}‏ والسّبب الّذي نزلت فيه يدلّ على أنّ القتل أفضل من الاستبقاء‏.‏

وأمّا فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏«فقد قتل الأسارى في غير موطنٍ»، فمن رأى أنّ الآية الخاصّة بالأسارى ناسخةٌ لفعله قال‏:‏ لا يقتل الأسير، ومن رأى أنّ الآية ليس فيها ذكرٌ لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى قال بجواز قتل الأسير‏.‏

21 - ويتّفق الفقهاء على أنّ الأسرى من نساء الحربيّين وذراريّهم، ومن في حكمهم كالخنثى والمجنون، وكذا العبيد المملوكون لهم يسترقّون بنفس الأسر، ويتّفقون على أنّ من أسلم من الحربيّين قبل الاستيلاء والأسر لا يسترقّ، وكذا بالنّسبة للمرتدّين، فإنّ الحكم بالنّسبة لهم الاستتابة والعودة إلى الإسلام، وإلاّ فالسّيف‏.‏

22 - أمّا الرّجال الأحرار المقاتلون منهم‏.‏ فقد اتّفقوا أيضاً على جواز استرقاق الأعاجم، وثنيّين كانوا أو أهل كتابٍ‏.‏ واتّجه الجمهور إلى جواز استرقاق العرب على تفصيلٍ بينهم‏.‏ والحنفيّة لا يجيزون استرقاق مشركي العرب‏.‏

الفداء بالمال

23 - المشهور في مذهب المالكيّة، وهو قول محمّد بن الحسن من فقهاء الحنفيّة، ومذهب الشّافعيّة، والحنابلة في غير روايةٍ عن الإمام أحمد‏:‏ جواز فداء أسرى الحربيّين الّذين يثبت الخيار للإمام فيهم بالمال‏.‏ غير أنّ المالكيّة يجيزونه بمالٍ أكثر من قيمة الأسير، وعن محمّد بن الحسن - كما نقل السّرخسيّ عن السّير الكبير - تقييد ذلك بحاجة المسلمين للمال، وقيد الكاسانيّ هذا بما إذا كان الأسير شيخاً كبيراً لا يرجى له ولدٌ‏.‏ وأجازه الشّافعيّة بالمال دون قيدٍ، ولو لم تكن ثمّة حاجةٌ للمال، ونصّوا على أنّه للإمام أن يفدي الأسرى بالمال يأخذه منهم، سواءٌ، أكان من مالهم أم من مالنا الّذي في أيديهم، وأن نفديهم بأسلحتنا الّتي في أيديهم‏.‏ أمّا أسلحتهم الّتي بأيدينا ففي جواز مفاداة أسرانا بها وجهان، أوجههما عندهم الجواز‏.‏ واستدلّ المجيزون بظاهر قوله تعالى ‏{‏فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً‏}‏، و«بفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم، فقد فادى أسارى بدرٍ بالمال وكانوا سبعين رجلاً، كلّ رجلٍ منهم بأربعمائة درهمٍ»، وأدنى درجات فعله الجواز والإباحة‏.‏

24 - ويرى الحنفيّة، في غير ما روي عن محمّدٍ، وهو روايةٌ عن أحمد وقول أبي عبيد القاسم بن سلاّمٍ عدم جواز الفداء بمالٍ‏.‏ ويدلّ على عدم الجواز أنّ قتل الأسارى مأمورٌ به، لقوله تعالى ‏{‏فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ وأنّه منصرفٌ إلى ما بعد الأخذ والاسترقاق، وقوله تعالى ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ والأمر بالقتل للتّوسّل إلى الإسلام، فلا يجوز تركه إلاّ لما شرع له القتل، وهو أن يكون وسيلةً إلى الإسلام، ولا يحصل معنى التّوسّل بالمفاداة بالمال، كما أنّ في ذلك إعانةً لأهل الحرب، لأنّهم يرجعون إلى المنعة، فيصيرون حرباً علينا، وقتل المشرك عند التّمكّن منه فرضٌ محكمٌ، وفي المفاداة ترك إقامة هذا الفرض، وقد روي عن أبي بكرٍ أنّه قال في الأسير‏:‏‏"‏ لا تفادوه وإن أعطيتم به مدّين من ذهبٍ ‏"‏ ولأنّه صار بالأسر من أهل دارنا، فلا يجوز إعادته لدار الحرب، ليكون حرباً علينا، وفي هذا معصيةٌ، وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز، ولو أعطونا مالاً لترك الصّلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة، فكذا لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة‏.‏

وعلى القول بأنّ للإمام حقّ المفاداة بالمال، فإنّ هذا المال يكون للغانمين، وليس من حقّه أن يسقط شيئاً من المال الّذي يفرضه عليهم مقابل الفداء إلاّ برضى الغانمين‏.‏

فداء أسرى المسلمين بأسرى الأعداء

25 - ذهب الجمهور من المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وصاحبا أبي حنيفة، وهو إحدى الرّوايتين عن أبي حنيفة إلى جواز تبادل الأسرى، مستدلّين بقول النّبيّ «أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني» وقوله «إنّ على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم، ويؤدّوا عن غارمهم» و «فادى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرّجل الّذي أخذه من بني عقيلٍ»‏.‏ «وفادى بالمرأة الّتي استوهبها من سلمة بن الأكوع ناساً من المسلمين كانوا قد أسروا بمكّة» ولأنّ في المفاداة تخليص المسلم من عذاب الكفّار والفتنة في الدّين، وإنقاذ المسلم أولى من إهلاك الكافر‏.‏

ولم يفرّقوا بين ما إذا كانت المفاداة قبل القسمة أو بعدها‏.‏ أمّا أبو يوسف فقد قصر جواز المفاداة على ما قبل القسمة، لأنّه قبل القسمة لم يتقرّر كون أسيرهم من أهل دارنا حتّى جاز للإمام أن يقتله، وأمّا بعد القسمة فقد تقرّر كونه من أهل دارنا حتّى ليس للإمام أن يقتله‏.‏ أي فلا يعاد بالمفاداة إلى دار الكفر‏.‏ ولأنّ في المفاداة بعدها إبطال ملك المقسوم له من غير رضاه‏.‏ ونصّ المالكيّة على مثل قول أبي يوسف أيضاً، ومحمّد بن الحسن أجازه في الحالتين لأنّ المعنى الّذي لأجله جوّز ذلك قبل القسمة الحاجة إلى تخليص المسلم من عذابهم، وهذا موجودٌ بعد القسمة، وحقّ الغانمين في الاسترقاق ثابتٌ قبل القسمة، وقد صار الأسير بذلك من أهل دارنا، ثمّ تجوز المفاداة به لهذه الحاجة، فكذلك بعد القسمة‏.‏

وقد نقل الحطّاب عن أبي عبيدٍ أنّ النّساء والذّراريّ ليس فيهم إلاّ الاسترقاق، أو المفاداة بالنّفوس دون المال‏.‏ وأمّا الرّواية الأخرى عن أبي حنيفة فهي منع مفاداة الأسير بالأسير، ووجهه‏:‏ أنّ قتل المشركين فرضٌ محكمٌ، فلا يجوز تركه بالمفاداة‏.‏

26 - ولو أسلم الأسير لا يفادى به لعدم الفائدة، أي لأنّه فداء مسلمٍ بمسلمٍ، إلاّ إذا طابت به نفسه وهو مأمونٌ على إسلامه‏:‏

27 - ويجوز مفاداة الأكثر بالأقلّ والعكس كما قال الشّافعيّة، ولم يصرّح بذلك الحنابلة، لكن في كتبهم ما يوافق ذلك، لاستدلالهم بالأحاديث المتقدّمة‏.‏ أمّا الحنفيّة فقد نصّوا على أنّه لا يجوز أن يعطى لنا رجلٌ واحدٌ من أسرانا، ويؤخذ بدله أسيران من المشركين‏.‏

جعل الأسرى ذمّةً لنا وفرض الجزية عليهم

28 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للإمام أن يضع الجزية في رقاب الأسرى من أهل الكتاب والمجوس على أن يكونوا ذمّةً لنا، وفي وجهٍ عند الشّافعيّ أنّه يجب على الإمام إجابتهم إلى ذلك إذا سألوه، كما يجب إذا بذلوا الجزية في غير أسرٍ‏.‏ واستدلّوا على جواز ذلك بفعل عمر في أهل السّواد وقالوا‏:‏ إنّه أمرٌ جوازيٌّ، لأنّهم صاروا في يد المسلمين بغير أمانٍ، وكيلا يسقط بذلك ما ثبت من اختيارٍ‏.‏ وهذا إن كانوا ممّن تؤخذ منهم الجزية‏.‏

وهذا يتّفق مع ما حكاه ابن رشدٍ حيث قال‏:‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس، واختلفوا فيما سواهم من المشركين، فقال قومٌ‏:‏ تؤخذ من كلّ مشركٍ، وبه قال مالكٌ‏.‏ وأجاز الحنفيّة ذلك للإمام بالنّسبة للأسارى من غير مشركي العرب والمرتدّين، ووضعوا قاعدةً عامّةً هي‏:‏ كلّ من يجوز استرقاقه من الرّجال، يجوز أخذ الجزية منه بعقد الذّمّة، كأهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم، ومن لا يجوز استرقاقه لا يجوز أخذ الجزية منه، كالمرتدّين وعبدة الأوثان من العرب‏.‏

رجوع الإمام في اختياره

29 - لم نقف فيما رجعنا إليه من كتبٍ على من تعرّض لهذا، إلاّ ما قاله ابن حجرٍ الهيتميّ الشّافعيّ من قولة‏:‏ لم يتعرّضوا فيما علمت إلى أنّ الإمام لو اختار خصلةً له الرّجوع عنها أوّلاً، ولا إلى أنّ اختياره هل يتوقّف على لفظٍ أو لا‏.‏ وقال‏:‏ والّذي يظهر لي في ذلك تفصيلٌ لا بدّ منه، فلو اختار خصلةً وظهر له بالاجتهاد أنّها الأحظّ، ثمّ ظهر له أنّ الأحظّ غيرها، فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً، لأنّ الغانمين وأهل الخمس ملكوا بمجرّد ضرب الرّقّ، فلم يملك إبطاله عليهم، وإن كان قتلاً جاز له الرّجوع عنه، تغليباً لحقن الدّماء ما أمكن، وإن كان فداءً أو منّاً لم يعمل بالثّاني، لاستلزامه نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجبٍ، إلاّ إذا كان اختياره أحدهما لسببٍ ثمّ زال السّبب، وتعيّنت المصلحة في الثّاني عمل بقضيّته‏.‏ وليس هذا نقض اجتهادٍ باجتهادٍ، بل بما يشبه النّصّ، لزوال موجبه الأوّل بالكلّيّة‏.‏

ما يكون به الاختيار

30 - وأمّا توقّف الاختيار على لفظٍ، فإنّ الاسترقاق لا بدّ فيه من لفظٍ يدلّ عليه، ولا يكفي فيه مجرّد الفعل، وكذا الفداء، نعم يكفي فيه لفظٌ ملتزمٌ البدل مع قبض الإمام له من غير لفظٍ، بخلاف الخصلتين الأخريين لحصولهما بمجرّد الفعل‏.‏

إسلام الأسير

31 - إذا أسلم الأسير بعد أسره وقبل قضاء الإمام فيه القتل أو المنّ أو الفداء، فإنّه لا يقتل إجماعاً، لأنّه بالإسلام قد عصم دمه‏.‏

أمّا استرقاقه ففيه رأيان‏:‏ فالجمهور، وقولٌ للشّافعيّة، واحتمالٌ للحنابلة أنّ الإمام فيه مخيّرٌ فيما عدا القتل، لأنّه لمّا سقط القتل بإسلامه بقيت باقي الخصال‏.‏

والقول الظّاهر للحنابلة، وهو قولٌ للشّافعيّة أنّه يتعيّن استرقاقه، لأنّ سبب الاسترقاق قد انعقد بالأسر قبل إسلامه، فصار كالنّساء والذّراريّ، فيتعيّن استرقاقه فقط، فلا منّ ولا فداء، ولكن يجوز أن يفادي به لتخليصه من الرّقّ‏.‏

أموال الأسير

32 - الحكم في مال الأسير مبنيٌّ على الحكم في نفسه، فلا عصمة له على ماله وما معه، فهو فيءٌ لكلّ المسلمين ما دام أسر بقوّة الجيش، أو كان الأسر مستنداً لقوّة الجيش، ولو أسلم بعد أسره واسترقّ تبعه ماله، أمّا لو كان إسلامه في دار الحرب قبل أخذه، ولم يخرج إلينا حتّى ظهرنا على الدّار، عصم نفسه وصغاره وكلّ ما في يده من مالٍ، لحديث «من أسلم على مالٍ فهو له» وذلك باتّفاق المذاهب بالنّسبة للمنقول، وكذا العقار عند المالكيّة، وهو مذهب الشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ وخرج عقاره لأنّه في يد أهل الدّار وسلطانها فيكون غنيمةً‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ محمّداً جعله كسائر ماله‏.‏ وإذا قال الأمير‏:‏ من خرج من أهل العسكر فأصاب شيئاً فله من ذلك الرّبع، وسمع هذه المقالة أسيرٌ من أهل الحرب، فخرج فأصاب شيئاً فذلك كلّه للمسلمين، لأنّ الأسير فيءٌ لهم وكسب العبد لمولاه‏.‏

33 - وإذا وقع السّبي في سهم رجلٍ من المسلمين، فأخرج مالاً كان معه لم يعلم به، فينبغي للّذي وقع في سهمه أن يردّه في الغنيمة، لأنّ الأمير إنّما ملّكه بالقسمة رقبة الأسير لا ما معه من المال، فإنّ ذلك لم يكن معلوماً له، وهو مأمورٌ بالعدل في القسمة، وإنّما يتحقّق العدل إذا كانت القسمة لا تتناول إلاّ ما كان معلوماً‏.‏ ويروى أنّ رجلاً اشترى جاريةً من المغنم، فلمّا رأت أنّها قد خلصت له أخرجت حليّاً كان معها، فقال الرّجل‏:‏ ما أدري هذا‏؟‏ وأتى سعد بن أبي وقّاصٍ فأخبره فقال‏:‏ اجعله في غنائم المسلمين‏.‏ لأنّ المال الّذي مع الأسير كان غنيمةً، وفعل الأمير تناول الرّقبة دون المال، فبقي المال غنيمةً‏.‏

وهذا الحكم يصدق أيضاً على الدّيون والودائع الّتي له لدى مسلمٍ أو ذمّيٍّ‏.‏ فإن كانت لدى حربيٍّ فهي فيءٌ للغانمين‏.‏

34 - وإذا كان على الأسير دينٌ لمسلمٍ أو ذمّيٍّ قضي من ماله الّذي لم يغنم قبل استرقاقه، فإنّ حقّ الدّين مقدّمٌ على حقّ الغنيمة، إلاّ إذا سبق الاغتنام رقّه‏.‏

ولو وقعا معاً فالظّاهر - على ما قال الغزاليّ من الشّافعيّة - تقديم الغنيمة، فإن لم يكن مالٌ فهو في ذمّته إلى أن يعتق‏.‏

بم يعرف إسلامه

35 - روي أنّه لمّا أسر المسلمون بعض المشركين وتكلّم بعضهم بالإسلام دون اعترافٍ جازمٍ، بيّن اللّه أمرهم بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم ويغفر لكم واللّه غفورٌ رحيمٌ‏.‏ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اللّه من قبل فأمكن منهم‏}‏‏.‏ وإذا كان القرآن كشف نيّات بعض الأسرى لرسوله، فإنّ المحاربين من المسلمين لم يؤمروا بالبحث عن هذه النّيّات، ولقد حدّث المقداد بن الأسود أنّه قال‏:‏«يا رسول اللّه، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسّيف فقطعها، ثمّ لاذ منّي بشجرةٍ فقال‏:‏ أسلمت للّه، أفأقتله يا رسول اللّه بعد أن قالها‏؟‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقتله‏.‏ قال فقلت‏:‏ يا رسول اللّه إنّه قطع يدي، ثمّ قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله‏؟‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته الّتي قال»‏.‏

وبمثل ذلك قال الرّسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيدٍ فيما رواه مسلمٌ‏:‏ «أفلا شققت عن قلبه حتّى تعلم أقالها أم لا»‏.‏ ولذا فإنّ الفقهاء قالوا‏:‏ لو أنّ المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا قتلهم، فقال رجلٌ منهم‏:‏ أنا مسلمٌ، فلا ينبغي لهم أن يقتلوه حتّى يسألوه عن الإسلام، فإن وصفه لهم فهو مسلمٌ، وإن أبى أن يصفه فإنّه ينبغي للمسلمين أن يصفوه له، ثمّ يقولوا له‏:‏ هل أنت على هذا‏؟‏ فإن قال‏:‏ نعم، فهو مسلمٌ، ولو قال‏:‏ لست بمسلمٍ ولكن ادعوني إلى الإسلام حتّى أسلم لم يحلّ قتله‏.‏

أسرى البغاة

36 - البغي في اللّغة‏:‏ مصدر بغى، وهو بمعنى علا وظلم وعدل عن الحقّ واستطال‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه‏}‏‏.‏

والبغاة في الاصطلاح‏:‏ هم الخارجون على الإمام الحقّ بغير حقٍّ ولهم منعةٌ‏.‏ ويجب قتالهم لردعهم لا لقتلهم وسنتصدّى للكلام عن حكم أسراهم‏.‏

37 - أسرى البغاة تعاملهم الشّريعة الإسلاميّة معاملةً خاصّةً، لأنّ قتالهم لمجرّد دفعهم عن المحاربة، وردّهم إلى الحقّ، لا لكفرهم‏.‏ روي عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يا ابن أمّ عبدٍ ما حكم من بغى على أمّتي‏؟‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ لا يتبع مدبرهم، ولا يذفّف على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيؤهم»‏.‏

38 - وقد اتّفق الفقهاء على عدم جواز سبي نساء البغاة وذراريّهم‏.‏ بل ذهب بعض الفقهاء إلى قصر الأسر على الرّجال المقاتلين وتخلية سبيل الشّيوخ والصّبية، وقد روي أنّ عليّاً رضي الله عنه لمّا وقع القتال بينه وبين معاوية، قرّر عليٌّ عدم السّبي وعدم أخذ الغنيمة، فاعترض عليه بعض من كانوا في صفوفه، فقال ابن عبّاسٍ لهم‏:‏ أفتسبون أمّكم عائشة‏؟‏ أم تستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها‏.‏ فإن قلتم ليست أمّكم كفرتم، لقوله تعالى ‏{‏النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم‏}‏ وإن قلتم‏:‏ إنّها أمّكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم، لقوله تعالى ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً‏}‏‏.‏ فلا يستباح منهم إلاّ بقدر ما يدفع القتال ويبقى حكم المال والذّرّيّة على أصل العصمة‏.‏ ولفقهاء المذاهب تفصيلٌ في حكم أسرى البغاة‏.‏

39 - ويتّفق الفقهاء على عدم استرقاق أسرى البغاة، لأنّ الإسلام يمنع الاسترقاق ابتداءً، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال يوم الجمل‏:‏‏"‏ لا يقتل أسيرهم، ولا يكشف سترٌ، ولا يؤخذ مالٌ ‏"‏ أي لا يسترقّون ولذا فإنّه لا تسبى نساؤهم ولا ذراريّهم‏.‏ والأصل أنّ أسيرهم لا يقتل لأنّه مسلمٌ، وقد نصّ على تحريم ذلك كلٌّ من الشّافعيّة والحنابلة، حتّى قال الحنابلة‏:‏ وإن قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم، لأنّهم لا يقتلون بجناية غيرهم، ويتّجه المالكيّة وجهة الشّافعيّة والحنابلة في عدم قتل الأسرى‏.‏

غير أنّه جاء في بعض كتب المالكيّة‏:‏ أنّه إذا أسر بعد انقضاء الحرب يستتاب، فإن لم يتب قتل‏.‏ وقيل‏:‏ يؤدّب ولا يقتل وإن كانت الحرب قائمةً فللإمام قتله‏.‏ ولو كانوا جماعةً، إذا خاف أن يكون منهم ضررٌ‏.‏ أمّا الحنفيّة فيفرّقون بين ما إذا كان لأسرى البغاة فئةٌ، وبين ما إذا لم تكن لهم فئةٌ، فقالوا‏:‏ لو كان للبغاة فئةٌ أجهز على جريحهم، واتّبع هاربهم لقتله أو أسره، فإن لم يكن له فئةٌ فلا، والإمام بالخيار في أسرهم إن كان له فئةٌ‏:‏ إن شاء قتله لئلاّ ينفلت ويلحق بهم، وإن شاء حبسه حتّى يتوب أهل البغي، قال الشرنبلالي‏:‏ وهو الحسن، لأنّ شرّه يندفع بذلك، وقالوا‏:‏ إنّ ما قاله عليٌّ رضي الله عنه من عدم قتل الأسير مؤوّلٌ بما إذا لم يكن لهم فئةٌ، وقالوا‏:‏ إنّ عليّاً كان إذا أخذ أسيراً استحلفه ألاّ يعين عليه وخلاّه، أمّا إذا لم تكن لهم فئةٌ فلا يقتل أسيرهم‏.‏ والمرأة من أهل البغي إذا أسرت وكانت تقاتل حبست ولا تقتل، إلاّ في حال مقاتلتها‏.‏ وكذا العبيد والصّبيان‏.‏

40 - ويتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز فداؤهم نظير مالٍ، وإنّما إذا تركهم مع الأمن كان مجّاناً، لأنّ الإسلام يعصم النّفس والمال، كما أنّه لا يجوز للإمام موادعتهم على مالٍ، وإن وادعهم على مالٍ بطلت الموادعة ونظر في المال، فإن كان من فيئهم أو من صدقاتهم لم يردّه عليهم، وصرف الصّدقات في أهلها، والفيء في مستحقّيه، وإن كان من خالص أموالهم وجب ردّه عليهم‏.‏

41 - ويجوز مفاداتهم بأسارى أهل العدل، وإن أبى البغاة مفاداة الأسرى الّذين معهم وحبسوهم، قال ابن قدامة‏:‏ احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم، ليتوصّلوا إلى تخليص أساراهم، ويحتمل ألاّ يجوز حبسهم ويطلقون، لأنّ المترتّب في أسارى أهل العدل لغيرهم‏.‏

42 - وعلى ما سبق من عدم جواز قتلهم، فإنّهم يحبسون ولا يخلّى سبيلهم، إن كان فيهم منعةٌ، ولو كان الأسير صبيّاً أو امرأةً أو عبداً إن كانوا مقاتلين، وإلاّ أطلقوا بمجرّد انقضاء الحرب، وينبغي عرض التّوبة عليهم ومبايعة الإمام‏.‏ ولو كانوا مراهقين وعبيداً ونساءً غير مقاتلين أو أطفالاً أطلقوا بعد الحرب دون أن نعرض عليهم مبايعة الإمام‏.‏

وفي وجهٍ عند الحنابلة يحبسون، لأنّ فيه كسراً لقلوب البغاة‏.‏ وقالوا‏:‏ إن بطلت شوكتهم ويخاف اجتماعهم في الحال، فالصّواب عدم إرسال أسيرهم والحالة هذه‏.‏

أسرى الحربيّين إذا أعانوا البغاة

43 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا استعان البغاة على قتالنا بقومٍ من أهل الحرب وأمّنوهم، أو لم يؤمنوهم، فظهر أهل العدل عليهم، فوقعوا في الأسر عند أهل العدل، أخذوا حكم أسرى أهل الحرب، واستثنى الشّافعيّة ما إذا قال الأسير‏:‏ ظننت جواز إعانتهم، أو أنّهم على حقٍّ ولي إعانة المحقّ، وأمكن تصديقه فإنّه يبلّغ مأمنه، ثمّ يقاتل كالبغاة‏.‏

الأسرى من أهل الذّمّة إذا أعانوا البغاة

44 - إذا استعان البغاة على قتالنا بأهل الذّمّة، فوقع أحدٌ منهم في الأسر، أخذ حكم الباغي عند الحنفيّة، فلا يقتل إذا لم تكن له فئةٌ، ويخيّر الإمام إذا كانت له فئةٌ، ولا يجوز استرقاقه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إذا استعان الباغي المتأوّل بذمّيٍّ فلا يغرم الذّمّيّ ما أتلفه من نفسٍ أو مالٍ، ولا يعدّ خروجه معه نقضاً للعهد‏.‏

أمّا إن كان الباغي معانداً - أي غير متأوّلٍ - فإنّ الذّمّيّ الّذي معه يكون ناقضاً للعهد، ويكون هو وماله فيئاً‏.‏ وهذا إن كان مختاراً، أمّا إن كان مكرهاً فلا ينتقض عهده، وإن قتل نفساً يؤخذ بها، حتّى لو كان مكرهاً‏.‏ وقول الشّافعيّة في ذلك كقول المالكيّة‏.‏ قالوا‏:‏ لو أعان الذّمّيّون البغاة في القتال، وهم عالمون بالتّحريم مختارون انتقض عهدهم، كما لو انفردوا بالقتال‏.‏ أمّا إن قال الذّمّيّون‏:‏ كنّا مكرهين، أو ظننّا جواز القتال إعانةً، أو ظننّا أنّهم محقّون فيما فعلوه، وأنّ لنا إعانة المحقّ وأمكن صدقهم، فلا ينتقض عهدهم، لموافقتهم طائفةً مسلمةً مع عذرهم، ويقاتلون كبغاةٍ‏.‏ ومثلهم في ذلك المستأمنون، على ما صرّح به الشّافعيّة‏.‏ وللحنابلة قولان في انتقاض عهدهم،

أحدهما‏:‏ ينتقض عهدهم، لأنّهم قاتلوا أهل الحقّ فانتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتلهم‏.‏ ويصيرون كأهل الحرب في قتل مقبلهم واتّباع مدبرهم وجريحهم‏.‏

والثّاني‏:‏ لا ينتقض، لأنّ أهل الذّمّة لا يعرفون المحقّ من المبطل، فيكون ذلك شبهةً لهم‏.‏ ويكون حكمهم حكم أهل البغي في قتل مقبلهم، والكفّ عن أسرهم ومدبرهم وجريحهم‏.‏

وإن أكرههم البغاة على معونتهم، أو ادّعوا ذلك قبل منهم، لأنّهم تحت أيديهم وقدرتهم‏.‏ وكذلك إن قالوا‏:‏ ظننّا أنّ من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته، لأنّ ما ادّعوه محتملٌ، فلا ينتقض عهدهم مع الشّبهة‏.‏ وإن فعل ذلك المستأمنون نقض عهدهم‏.‏ والفرق بينهما أنّ أهل الذّمّة أقوى حكماً، لأنّ عهدهم مؤبّدٌ، ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم، ويلزم الإمام الدّفع عنهم، والمستأمنون بخلاف ذلك‏.‏ وإذا أسر من يراد عقد الإمامة له، وكان لا يقدر على الخلاص من الأسر، منع ذلك من عقد الإمامة له‏.‏

أسرى الحرابة

45 - المحاربون طائفةٌ من أهل الفساد، اجتمعت على شهر السّلاح وقطع الطّريق، ويجوز حبس من أسر منهم لاستبراء حاله، ومن ظفر بالمحارب فلا يلي قتله، ويرفعه إلى الإمام‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ إلاّ أن يخاف ألاّ يقيم الإمام عليه الحكم‏.‏

ولا يجوز للإمام تأمينه، وإن استحقّوا الهزيمة فجريحهم أسيرٌ، والحكم فيهم للإمام، مسلمين كانوا أو ذمّيّين عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وأحد قولين عند الحنابلة‏.‏ وكذلك المستأمن عند أبي يوسف والأوزاعيّ‏.‏ وموضع بيان ذلك مصطلح ‏(‏حرابةٌ‏)‏‏.‏

أسرى المرتدّين وما يتعلّق بهم من أحكامٍ

46 - الرّدّة في اللّغة‏:‏ الرّجوع، فيقال‏:‏ ارتدّ عن دينه إذا كفر بعد إسلامٍ‏.‏

وتختصّ الرّدّة - في الاصطلاح الفقهيّ - بالكفر بعد الإسلام‏.‏ وكلّ مسلمٍ ارتدّ فإنّه يقتل إن لم يتب، إلاّ المرأة عند الحنفيّة فإنّها تحبس، ولا يترك المرتدّ على ردّته بإعطاء الجزية ولا بأمانٍ، ولا يجوز استرقاقه حتّى لو أسر بعد أن لحق بدار الحرب، بخلاف المرأة فإنّها تسترقّ بعد اللّحاق بدار الحرب، على تفصيلٍ بين المذاهب موضعه مصطلح ‏(‏ردّةٌ‏)‏‏.‏

47 - وإذا ارتدّ جمعٌ، وتجمّعوا وانحازوا في دارٍ ينفردون بها عن المسلمين، حتّى صاروا فيها ذوي منعةٍ وجب قتالهم على الرّدّة بعد مناظرتهم على الإسلام، ويستتابون وجوباً عند الحنابلة والشّافعيّة، واستحباباً عند الحنفيّة، ويقاتلون قتال أهل الحرب، ومن أسر منهم قتل صبراً إن لم يتب، ويصرّح الشّافعيّة بأنّنا نبدؤهم بالقتال إذا امتنعوا بنحو حصنٍ‏.‏

ولا يجوز أن يسترقّ رجالهم، ولكن تغنم أموالهم، وتسبى ذراريّهم الّذين حدثوا بعد الرّدّة، لأنّها دارٌ تجري فيها أحكام أهل الحرب فكانت دار حربٍ، ولا يجوز أن يهادنوا على الموادعة، ولا يصالحوا على مالٍ يقرّون به على ردّتهم، بخلاف أهل الحرب‏.‏

وقد سبى أبو بكرٍ رضي الله عنه ذراريّ من ارتدّ من العرب من بني حنيفة وغيرهم، وسبى عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه بني ناجية‏.‏ وإن أسلموا حقنت دماؤهم، ومضى فيهم حكم السّباء على الصّبيان والنّساء، فأمّا الرّجال فأحرارٌ لا يسترقّون، وليس على الرّجال من أهل الرّدّة سبيٌ ولا جزيةٌ، إنّما هو القتل أو الإسلام‏.‏ وإن ترك الإمام السّباء وأطلقهم وعفا عنهم وترك لهم أرضهم وأموالهم فهو في سعةٍ‏.‏

48 - ويصرّح المالكيّة بعدم استتابة المرتدّين إن حاربوا بأرض الكفر أو بأرض الإسلام، يقول ابن رشدٍ‏:‏ إذا حارب المرتدّ ثمّ ظهر عليه فإنّه يقتل بالحرابة، ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب إلاّ أن يسلم، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالكٍ كالحربيّ يسلم، لا تباعة عليه في شيءٍ ممّا فعل في حال ارتداده‏.‏ وأمّا إن كان حرابته في دار الإسلام فإنّه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصّةً‏.‏ وعن ابن القاسم قال‏:‏ إذا ارتدّ جماعةٌ في حصنٍ فإنّهم يقاتلون، وأموالهم فيءٌ للمسلمين، ولا تسبى ذراريّهم‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ تسبى ذراريّهم وتقسم أموالهم‏.‏ وهذا الّذي خالفت فيه سيرة عمر سيرة أبي بكرٍ رضي الله عنهما في الّذين ارتدّوا من العرب، فقد سبى أبو بكرٍ النّساء والصّغار، وأجرى المقاسمة في أموالهم، فلمّا ولي عمر نقض ذلك‏.‏

49 - ويتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الأسير المرتدّ يقتل إن لم يتب ويعد إلى الإسلام، ولا فرق بين رجلٍ وامرأةٍ عند الأئمّة الثّلاثة‏.‏ وروي ذلك عن أبي بكرٍ وعليٍّ، وبه قال الحسن والزّهريّ والنّخعيّ ومكحولٌ، لعموم حديث‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه»‏.‏

50 - ويرى الحنفيّة أنّ المرأة لا تقتل، وإنّما تحبس حتّى تتوب‏.‏

أمّا لو كانت المرأة تقاتل، أو كانت ذات رأيٍ فإنّها تقتل اتّفاقاً‏.‏ لكنّها عند الحنفيّة تقتل لا لردّتها، بل لأنّها تسعى بالفساد‏.‏

ويستدلّ الحنفيّة على عدم قتل المرأة المرتدّة إذا أخذت سبياً بما روي من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلنّ ذرّيّةً ولا عسيفاً»، ولا فرق بين الكفر الأصليّ والكفر الطّارئ، فإنّ الحربيّة إذا سبيت لا تقتل‏.‏

51 - ويتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّه لا يجوز أخذ الفداء من الأسرى المرتدّين، ولا المنّ عليهم بأمانٍ مؤقّتٍ أو أمانٍ مؤبّدٍ، ولا يترك على ردّته بإعطاء الجزية‏.‏ كما يتّفقون على أنّ المرتدّ من الرّجال لا يجري فيه إلاّ‏:‏ العودة إلى الإسلام أو القتل، لأنّ قتل المرتدّ على ردّته حدٌّ، ولا يترك إقامة الحدّ لمنفعة الأفراد‏.‏

52 - والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الرّقّ لا يجري على المرتدّة أيضاً، وإن لحقت بدار الحرب، لأنّه لا يجوز إمرار أحدٍ من المرتدّين على الكفر بالاسترقاق، بينما يرى الحنفيّة أنّ المرتدّة تسترقّ بعد اللّحاق بدار الحرب، ولا تسترقّ في دار الإسلام، كما في ظاهر الرّواية، وعن أبي حنيفة في النّوادر‏:‏ أنّها تسترقّ في دار الإسلام أيضاً‏.‏

وقالوا في تعليل ذلك‏:‏ إنّه لم يشرع قتلها، ولا يجوز إبقاء الكافر على الكفر إلاّ مع الجزية أو مع الرّقّ، ولا جزية على النّساء، فكان إبقاؤها على الرّقّ أنفع‏.‏

وقد استرق الصّحابة نساء من ارتدّ‏.‏

53 - وبالنّسبة لأصحاب الأعذار من الأسرى المرتدّين، فإنّهم يقتلون أيضاً‏.‏ ونقل السّرخسيّ قولاً بأنّ حلول الآفة بمنزلة الأنوثة، لأنّه تخرج به بنيته ‏(‏هيئته وجسمه‏)‏ من أن تكون صالحةً للقتال، فعلى هذا لا يقتلون بعد الرّدّة، كما لا يقتلون في الكفر الأصليّ‏.‏ وعلى قول من يرى وجوب قتل المرتدّة - إذا كانت الأسيرة المرتدّة ذات زوجٍ، وهي من ذوات الحيض - فإنّها تستبرأ بحيضةٍ قبل قتلها خشية أن تكون حاملاً، فإن ظهر بها حملٌ أخّرت حتّى تضع، فإن كانت ممّن لا تحيض استبرئت بثلاثة أشهرٍ إن كانت ممّن يتوقّع حملها، وإلاّ قتلت بعد الاستتابة‏.‏

أسرى المسلمين في يد الأعداء

استئسار المسلم وما ينبغي لاستنقاذه عند تترّس الكفّار به

أ - الاستئسار‏:‏

54 - الاستئسار هو تسليم الجنديّ نفسه للأسر، فقد يجد الجنديّ نفسه مضطرّاً لذلك‏.‏

وقد وقع الاستئسار من بعض المسلمين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلم به الرّسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم‏.‏ روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه بسنده قال‏:‏ «بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرةً رهطاً عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابتٍ الأنصاريّ، فانطلقوا حتّى إذا كانوا بالهدأة - موضعٌ بين عسفان ومكّة - ذكروا لبني لحيان، فنفروا لهم قريباً من مائتي رجلٍ كلّهم رامٍ، فاقتصّوا أثرهم، فلمّا رآهم عاصمٌ وأصحابه لجئوا إلى فدفدٍ - موضعٍ غليظٍ مرتفعٍ - وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم‏:‏ انزلوا وأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألاّ نقتل منكم أحداً، قال عاصمٌ‏:‏ أمّا أنا فواللّه لا أنزل اليوم في ذمّة كافرٍ، اللّهمّ خبّر عنّا نبيّك، فرموهم بالنّبل فقتلوا عاصماً في سبعةٍ، فنزل إليهم ثلاثة رهطٍ بالعهد والميثاق، منهم خبيبٌ الأنصاريّ، وزيد بن الدّثنة، ورجلٌ آخر‏.‏ فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيّهم فأوثقوهم، فقال الرّجل الثّالث‏:‏ هذا أوّل الغدر، واللّه لا أصحبكم، إنّ لي في هؤلاء لأسوةً - يريد القتلى - فجرّوه وعالجوه على أن يصحبهم - أي مارسوه وخادعوه ليتبعهم - فأبى فقتلوه، وانطلقوا بخبيبٍ وابن الدّثنة حتّى باعوهما بمكّة‏.‏‏.‏‏.‏» فعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما حدث، وعدم إنكاره يدلّ على أنّ الاستئسار في هذه الحالة مرخّصٌ فيه، وقال الحسن‏:‏ لا بأس أن يستأسر الرّجل إذا خاف أن يغلب‏.‏ وإلى هذا اتّجه كلٌّ من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

55 - وقد نصّ الشّافعيّة على شروطٍ يلزم توافرها لجواز الاستئسار هي‏:‏ أن يخاف أن يترتّب على عدم الاستسلام قتله في الحال، وألاّ يكون المستسلم إماماً، أو عنده من الشّجاعة ما يمكنه من الصّمود، وأن تأمن المرأة على نفسها الفاحشة‏.‏ والأولى - كما نصّ عليه الحنابلة - إذا ما خشي المسلم الوقوع في الأسر أن يقاتل حتّى يقتل، ولا يسلم نفسه للأسر، لأنّه يفوز بثواب الدّرجة الرّفيعة، ويسلم من تحكّم الكفّار عليه بالتّعذيب والاستخدام والفتنة، وإن استأسر جاز، لما روي عن أبي هريرة في الحديث المتقدّم‏.‏

ب- استنقاذ أسرى المسلمين ومفاداتهم‏:‏

56 - إذا وقع المسلم أسيراً فهو حرٌّ على حاله، وكان في ذمّة المسلمين، يلزمهم العمل على خلاصه، ولو بتيسير سبل الفرار له، والتّفاوض من أجل إطلاق سراحه، فإذا لم يطلقوا سراحه تربّصوا لذلك‏.‏ وقد كان الرّسول صلوات الله وسلامه عليه يتحيّن الفرصة المناسبة لتخليص الأسرى‏.‏ روت كتب السّيرة أنّ «قريشاً أسرت نفراً من المسلمين، فلمّا لم يجد الرّسول صلى الله عليه وسلم حيلةً لإنقاذهم كان يدعو اللّه لإنقاذهم دبر كلّ صلاةٍ، ولمّا أفلت أحدهم من الأسر، وقدم المدينة، سأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن رفيقيه فقال‏:‏ أنا لك بهما يا رسول اللّه، فخرج إلى مكّة فدخلها مستخفياً، فلقي امرأةً علم أنّها تحمل الطّعام لهما في الأسر فتبعها، حتّى استطاع تخليصهما، وقدم بهما على الرّسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة»‏.‏«وقد استنقذ رسول اللّه كلاًّ من سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، وقد أسرهما المشركون، بأن فاوض عليهما، وحبس اثنين منهم حتّى يطلقوا سراحهما»،«وكذلك فعل في استنقاذ عثمان وعشرةٍ من المهاجرين رضي الله عنهم بعد صلح الحديبية»‏.‏ وقد روى سعيدٌ بإسناده أنّ رسول اللّه قال‏:‏ «إنّ على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسراهم»‏.‏ ويروى أنّ عمر بن الخطّاب قال‏:‏ لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفّار أحبّ إليّ من جزيرة العرب‏.‏

57 - ويجب استنقاذ الأسرى بالمقاتلة ما دام ذلك ميسوراً، فإذا دخل المشركون دار الإسلام فأخذوا الأموال والذّراريّ والنّساء، ثمّ علم بهم جماعة المسلمين، ولهم عليهم قوّةٌ، فالواجب عليهم أن يتّبعوهم ما داموا في دار الإسلام، فإن دخلوا بهم دار الحرب، فالواجب على المسلمين أن يتّبعوهم إذا غلب على رأيهم أنّهم يقدرون على استنقاذهم، فإن شقّ عليهم القتال لتخليصهم فتركوه كانوا في سعةٍ من ذلك، فإنّا نعلم أنّ في يد الكفّار بعض أسارى المسلمين، ولا يجب على كلّ واحدٍ منّا الخروج لقتالهم لاستنقاذ الأسرى‏.‏

58 - والاستنقاذ إذا لم يتيسّر عن طريق القتال فإنّه يصحّ أن يكون عن طريق الفداء بتبادل الأسرى، على ما سبق بيان القول فيه، كما يصحّ أن يكون بالمال أيضاً، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني» لأنّ ما يخاف من تعذيب الأسير أعظم في الضّرورة من بذل المال، فجاز دفع أعظم الضّررين بأخفّهما‏.‏ والحنفيّة على وجوب ذلك في بيت المال، فإن لم يكن فعلى جميع المسلمين أن يفتدوه‏.‏ ونقل أبو يوسف عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ ‏"‏ كلّ أسيرٍ كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه في بيت مال المسلمين ‏"‏‏.‏ وهو ما ذهب إليه المالكيّة، كما نقله الموّاق عن ابن بشيرٍ من أنّه يجب في بيت المال، فإن تعذّر فعلى عموم المسلمين، والأسير كأحدهم، فإن ضيّع الإمام والمسلمون ذلك وجب على الأسير من ماله، وهو ما رواه ابن رشدٍ أيضاً‏.‏

وفي المهذّب أنّه وجهٌ عند الشّافعيّة‏.‏ والوجه الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ بذل المال لفكّ أسرى المسلمين - إن خيف تعذيبهم - جائزٌ عند الضّرورة، ويكون في مالهم، ويندب عند العجز افتداء الغير له، فمن قال لكافرٍ‏:‏ أطلق هذا الأسير، وعليّ كذا، فأطلقه لزمه، ولا يرجع على الأسير ما لم يأذن له في فدائه‏.‏

61 - وأسر المسلم الحرّ لا يزيل حرّيّته، فمن اشتراه من العدوّ لا يملكه، وإن اشتراه مسلمٌ بغير أمره فهو متطوّعٌ فيما أدّى من فدائه، وإن اشتراه بأمره فإنّه يرجع عليه بالثّمن الّذي اشتراه به، والقياس لا يرجع عليه إلاّ أن يشترط ذلك نصّاً‏.‏

ويرى المالكيّة - كما يروي الموّاق - أنّ للمشتريّ أن يرجع عليه، شاء أو أبى، لأنّه فداءٌ، فإن لم يكن له شيءٌ اتّبع به في ذمّته‏.‏ ولو كان له مالٌ وعليه دينٌ، فالّذي فداه واشتراه من العدوّ أحقّ به من غرمائه‏.‏ أمّا إن كان يقصد الصّدقة، أو كان الفداء من بيت المال فلا يرجع عليه، وكذا إن كان الأسير يرجو الخلاص بالهروب أو التّرك‏.‏

62 - ولو خلّى الكفّار الأسير، واستحلفوه على أن يبعث إليهم بفدائه، أو يعود إليهم، فإن كان هذا نتيجة إكراهٍ لم يلزمه الوفاء، وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء لزمه، وبهذا قال عطاءٌ والحسن والزّهريّ والنّخعيّ والثّوريّ والأوزاعيّ، لوجوب الوفاء، ولأنّ فيه مصلحة الأسارى، وفي الغدر مفسدةٌ في حقّهم‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ لا يلزمه، لأنّه حرٌّ لا يستحقّون بدله‏.‏ وأمّا إن عجز عن الفداء، فإن كانت امرأةً فإنّه لا يحلّ لها الرّجوع إليهم، لقوله تعالى ‏{‏فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار‏}‏، ولأنّ في رجوعها تسليطاً لهم على وطئها حراماً‏.‏

وإن كان رجلاً، ففي روايةٍ عند الحنابلة لا يرجع، وهو قول الحسن والنّخعيّ والثّوريّ والشّافعيّ‏.‏ وفي الرّواية الثّانية عندهم يلزمه، وهو قول عثمان والزّهريّ والأوزاعيّ،

«لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين صالح قريشاً على ردّ من جاء منهم مسلماً أمضى اللّه ذلك في الرّجال، ونسخه في النّساء»‏.‏

ج - التّترّس بأسارى المسلمين‏:‏

63 - التّرس بضمّ التّاء‏:‏ ما يتوقّى به في الحرب، يقال‏:‏ تترّس بالتّرس إذا توقّى به، ومن ذلك تترّس المشركين بالأسرى من المسلمين والذّمّيّين في القتال، لأنّهم يجعلونهم كالتّراس، فيتّقون بهم هجوم جيش المسلمين عليهم، لأنّ رمي المشركين - مع تترّسهم بالمسلمين - يؤدّي إلى قتل المسلمين الّذين نحرص على حياتهم وإنقاذهم من الأسر‏.‏

وقد عني الفقهاء بهذه المسألة، وتناولوها من ناحية جواز الرّمي مع التّترّس بالمسلمين أو الذّمّيّين، كما تناولوها من ناحية لزوم الكفّارة والدّية، وإليك اتّجاهات المذاهب في هذا‏:‏

أ - رمي التّرس‏:‏

64 - من ناحية رمي التّرس‏:‏ يتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان في ترك الرّمي خطرٌ محقّقٌ على جماعة المسلمين، فإنّه يجوز الرّمي برغم التّترّس، لأنّ في الرّمي دفع الضّرر العامّ بالذّبّ عن بيضة الإسلام، وقتل الأسير ضررٌ خاصٌّ‏.‏ ويقصد عند الرّمي الكفّار لا التّرس، لأنّه إن تعذّر التّمييز فعلاً فقد أمكن قصداً، ونقل ابن عابدين عن السّرخسيّ أنّ القول للرّامي بيمينه في أنّه قصد الكفّار، وليس قول وليّ المقتول الّذي يدّعي العمد‏.‏

أمّا في حالة خوف وقوع الضّرر على أكثر المسلمين فكذلك يجوز رميهم عند جمهور الفقهاء، لأنّها حالة ضرورةٍ أيضاً، وتسقط حرمة التّرس‏.‏

ويقول الصّاويّ المالكيّ‏:‏ ولو كان المسلمون المتترّس بهم أكثر من المجاهدين‏.‏ وفي وجهٍ عند الشّافعيّة لا يجوز، وعلّلوه بأنّ مجرّد الخوف لا يبيح الدّم المعصوم، كما أنّه لا يجوز عند المالكيّة إذا كان الخوف على بعض الغازين فقط‏.‏

65 - وأمّا في حالة الحصار الّذي لا خطر فيه على جماعة المسلمين، لكن لا يقدر على الحربيّين إلاّ برمي التّرس، فجمهور الفقهاء من المالكيّة، والشّافعيّة، وجمهور الحنابلة، والحسن بن زيادٍ من الحنفيّة على المنع، لأنّ الإقدام على قتل المسلم حرامٌ، وترك قتل الكافر جائزٌ‏.‏ ألا يرى أنّ للإمام ألاّ يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه، ولأنّ مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر‏.‏

وذهب جمهور الحنفيّة، والقاضي من الحنابلة إلى جواز رميهم، وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّ في الرّمي دفع الضّرر العامّ، وأنّه قلّما يخلو حصنٌ عن مسلمٍ، واعتبر القاضي من الحنابلة أنّ ذلك من قبيل الضّرورة‏.‏

ب - الكفّارة والدّية‏:‏

66 - ومن ناحية الكفّارة والدّية عند إصابة أحد أسرى المسلمين نتيجة رمي التّرس، فإنّ جمهور الحنفيّة على أنّ ما أصابوه منهم لا يجب فيه ديةٌ ولا كفّارةٌ، لأنّ الجهاد فرضٌ، والغرامات لا تقرن بالفروض، لأنّ الفرض مأمورٌ به لا محالة، وسبب الغرامات عدوانٌ محضٌ منهيٌّ عنه، وبينهما منافاةٌ، فوجوب الضّمان يمنع من إقامة الفرض، لأنّهم يمتنعون منه خوفاً من لزوم الضّمان، وهذا لا يتعارض مع ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه «ليس في الإسلام دمٌ مفرجٌ» - أي مهدرٌ - لأنّ النّهي عامٌّ خصّ منه البغاة وقطّاع الطّريق، فتخصّ صورة النّزاع، كما أنّ النّهي في الحديث خاصٌّ بدار الإسلام، وما نحن فيه ليس بدار الإسلام‏.‏

67 - وعند الحسن بن زيادٍ من الحنفيّة وجمهور الحنابلة والشّافعيّة تلزم الكفّارة قولاً واحداً، وفي وجوب الدّية روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ تجب، لأنّه قتل مؤمناً خطأً، فيدخل في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله إلاّ أن يصّدّقوا‏}‏‏.‏

الثّانية‏:‏ لا دية، لأنّه قتل في دار الحرب برميٍ مباحٍ، فيدخل في عموم قوله تعالى ‏{‏وإن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ‏}‏ ولم يذكر ديةً‏.‏ وعدم وجوب الدّية هو الصّحيح عند الحنابلة‏.‏

68 - ويقول الجمل الشّافعيّ‏:‏ وجبت الكفّارة إن علم القاتل، لأنّه قتل معصوماً، وكذا الدّية، لا القصاص، لأنّه مع تجويز الرّمي لا يجتمعان‏.‏ وفي نهاية المحتاج تقييد ذلك بأن يعلم به، وأن يكون في الإمكان توقّيه‏.‏ وينقل البابرتيّ من الحنفيّة عن أبي إسحاق أنّه قال‏:‏ إن قصده بعينه لزمه الدّية، علمه مسلماً أو لم يعلمه، للحديث المذكور‏.‏ وإن لم يقصده بعينه بل رمى إلى الصّفّ فأصيب فلا دية عليه‏.‏ والتّعليل الأوّل أنّ الإقدام على قتل المسلم حرامٌ، وترك قتل الكافر جائزٌ، لأنّ للإمام أن يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان تركه لعدم قتل المسلم أولى، ولأنّ مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر‏.‏

69 - ولم نقف للمالكيّة على شيءٍ في هذا إلاّ ما قاله الدّسوقيّ عند تعليقه على قول خليلٍ‏:‏ وإن تترّسوا بمسلمٍ، فقال‏:‏ وإن تترّسوا بأموال المسلمين فيقاتلون ولا يتركون‏.‏ وينبغي ضمان قيمته على من رماهم، قياساً على ما يرمى من السّفينة للنّجاة من الغرق، بجامع أنّ كلاًّ إتلاف مالٍ للنّجاة‏.‏

مدى تطبيق بعض الأحكام الشّرعيّة على أسرى المسلمين

حقّ الأسير في الغنيمة

70 - يستحقّ من أسر قبل إحراز الغنيمة فيما غنم قبل الأسر، إذا علم حياته أو انفلت من الأسر‏.‏ لأنّ حقّه ثابتٌ فيها، وبالأسر لم يخرج من أن يكون أهلاً، لتقرّر حقّه بالإحراز‏.‏ ولا شيء له فيما غنمه المسلمون بعد أسره، لأنّ المأسور في يد أهل الحرب لا يكون مع الجيش حقيقةً ولا حكماً، فهو لم يشاركهم في إصابة هذا، ولا في إحرازه بالدّار‏.‏ وإذا لم يعرف مصير هذا الأسير في يد الحربيّين قسمت الغنائم، ولم يوقف له منها شيءٌ‏.‏ وإن قسمت الغنائم ثمّ جاء بعد ذلك حيّاً لم يكن له شيءٌ، لأنّ حقّ الّذين قسم بينهم قد تأكّد بالقسمة وثبت ملكهم فيها، ومن ضرورته إبطال الحقّ الضّعيف‏.‏

والمذهب عند الحنابلة أنّه إذا هرب فأدرك الحرب قبل تقضّيها أسهم له، وفي قولٍ لا شيء له‏.‏ وإن جاء بعد إحراز الغنيمة فلا شيء له‏.‏

71 - ومن أسر بعد إخراج الغنائم من دار الحرب أو بيعها، وكان قد تخلّف في دار الحرب لحاجة بعض المسلمين، فإنّه يوقف نصيبه حتّى يجيء فيأخذه، أو يظهر موته فيكون لورثته، لأنّ حقّه قد تأكّد في المال المصاب بالإحراز‏.‏ وفي بداية المجتهد‏:‏ أنّ الغنيمة إنّما تجب عند الجمهور للمجاهدين بأحد شرطين‏:‏ إمّا أن يكون ممّن حضر القتال، وإمّا أن يكون ردءاً لمن حضر القتال‏.‏ وتفصيل الكلام في هذا موضعه مصطلح ‏(‏غنيمةٌ‏)‏‏.‏

حقّ الأسير في الإرث وتصرّفاته الماليّة

72 - أسير المسلمين الّذي مع العدوّ يرث إذا علمت حياته في قول عامّة الفقهاء، لأنّ الكفّار لا يملكن الأحرار بالقهر، فهو باقٍ على حرّيّته، فيرث كغيره‏.‏ وكذلك لا تسقط الزّكاة عنه، لأنّ تصرّفه في ماله نافذٌ، ولا أثر لاختلاف الدّار بالنّسبة له‏.‏ فقد كان شريحٌ يورّث الأسير في أيدي العدوّ‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ترك مالاً فلورثته‏.‏‏.‏‏.‏» فهذا الحديث بعمومه يؤيّد قول الجمهور أنّ الأسير إذا وجب له ميراثٌ يوقف له‏.‏ وعن سعيد بن المسيّب أنّه لم يورّث الأسير في أيدي العدوّ، وفي روايةٍ أخرى عنه أنّه يرث‏.‏

73 - والمسلم الّذي أسره العدوّ، ولا يدرى أحيٌّ هو أم ميّتٌ، مع أنّ مكانه معلومٌ وهو دار الحرب، له حكمٌ في الحال، فيعتبر حيّاً في حقّ نفسه، حتّى لا يورث عنه ماله، ولا تزوّج نساؤه، وميّتاً في حقّ غيره حتّى لا يرث من أحدٍ‏.‏ وله حكمٌ في المآل، وهو الحكم بموته بمضيّ مدّةٍ معيّنةٍ، فهو في حكم المفقود‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏مفقودٌ‏)‏‏.‏

74 - ويسري على الأسير في تصرّفاته الماليّة ما يسري على غيره في حال الصّحّة من أحكامٍ، فبيعه وهبته وصدقته وغير ذلك جائزٌ، ما دام صحيحاً غير مكرهٍ‏.‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏‏"‏ أجيز وصيّة الأسير وعتاقه وما صنع في ماله ما لم يتغيّر عن دينه، فإنّما هو ماله يصنع فيه ما يشاء ‏"‏‏.‏ أمّا إن كان الأسير في يد مشركين عرفوا بقتل أسراهم، فإنّه يأخذ حكم المريض مرض الموت، لأنّ الأغلب منهم أن يقتلوا، وليس يخلو المرّة في حالٍ أبداً من رجاء الحياة وخوف الموت، لكن إذا كان الأغلب عنده وعند غيره الخوف عليه، فعطيّته عطيّة مريضٍ، وإذا كان الأغلب الأمان كانت عطيّته عطيّة الصّحيح‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏مرض الموت‏)‏‏.‏

جناية الأسير وما يجب فيها

75 - يتّجه جمهور الفقهاء‏:‏ الشّافعيّة والحنابلة، وهو قولٌ عند المالكيّة، إلى أنّه إذا صدر من الأسير حال الأسر ما يوجب حدّاً أو قصاصاً وجب عليه ما يجب في دار الإسلام، لأنّه لا تختلف الدّاران في تحريم الفعل، فلم تختلف فيما يجب من العقوبة‏.‏ فلو قتل بعضهم بعضاً، أو قذف بعضهم بعضاً، أو شرب أحدهم خمراً، فإنّ الحدّ يقام عليهم إذا صاروا إلى بلاد المسلمين، ولا تمنع الدّار حكم اللّه‏.‏ ويقول الحطّاب‏:‏ إذا أقرّ الأسير أنّه زنى، ودام على إقراره ولم يرجع، أو شهد عليه، قال ابن القاسم وأصبغ‏:‏ عليّة الحدّ‏.‏

وإذا قتل الأسير أحداً منهم خطأً، وقد كان أسلم، والأسير لا يعلم، فعليه الدّية والكفّارة‏.‏ وقيل الكفّارة فقط‏.‏ وإذا قتله عمداً، وهو لا يعلمه مسلماً فعليه الدّية والكفّارة‏.‏ وإن كان قتله عمداً وهو يعلم بإسلامه قتل به‏.‏ وإذا جنى الأسير على أسيرٍ مثله فكغيرهما‏.‏

76 - وقال الحنفيّة - وهو قولٌ عند المالكيّة، قاله عبد الملك - في جريمة الزّنى - بعدم إقامة الحدّ عليه، لقوله عليه السلام «لا تقام الحدود في دار الحرب» لانعدام المستوفي، وإذا لم يجب عليه حين باشر السّبب لا يجب عليه بعد ذلك، وقالوا‏:‏ لا حدّ على من زنى وكان أسيراً في معسكر أهل البغي، لأنّ يد إمام أهل العدل لا تصل إليهم‏.‏ وقالوا‏:‏ لو قتل أحد الأسيرين المسلمين الآخر فلا شيء عليه سوى الكفّارة، وهذا عند أبي حنيفة، لأنّه بالأسر صار تبعاً لهم، لصيرورته مقهوراً في أيديهم، ولهذا يصير مقيماً بإقامتهم ومسافراً بسفرهم‏.‏ وخصّ الخطأ بالكفّارة، لأنّه لا كفّارة في العمد، وبقي عليه عقاب الآخرة‏.‏

وقال الصّاحبان بلزوم الدّية أيضاً في الخطأ والعمد، لأنّ العصمة لا تبطل بعارض الأسر وامتناع القصاص لعدم المنفعة، وتجب الدّية في ماله الّذي في دار الإسلام‏.‏

أنكحة الأسرى

77 - ظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبلٍ أنّ الأسير لا يحلّ له التّزوّج ما دام أسيراً، وهذا قول الزّهريّ، وكره الحسن أن يتزوّج في أرض المشركين، لأنّ الأسير إذا ولد له ولدٌ كان رقيقاً لهم، ولا يأمن أن يطأ امرأته غيره منهم، وسئل أحمد عن أسيرٍ اشتريت معه امرأته أيطؤها‏؟‏ فقال‏:‏ كيف يطؤها‏؟‏ فلعلّ غيره منهم يطؤها، قال الأثرم‏:‏ قلت له‏:‏ ولعلّها تعلق بولدٍ فيكون معهم، قال‏:‏ وهذا أيضاً‏.‏ ويقول الموّاق‏:‏ الأسير يعلم تنصّره فلا يدري أطوعاً أم كرهاً فلتعتدّ زوجته، ويوقف ماله، ويحكم فيه بحكم المرتدّ، وإن ثبت إكراهه ببيّنةٍ كان بحال المسلم في نسائه وماله‏.‏ وتفصيل ذلك في موضع ‏(‏إكراهٌ‏)‏ ‏(‏وردّةٌ‏)‏‏.‏

إكراه الأسير والاستعانة به

78 - الأسير إن أكرهه الكفّار على الكفر، وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، لا تبين منه امرأته، ولا يحرم ميراثه من المسلمين، ولا يحرمون ميراثهم منه، وإذا ما أكره على أكل لحم الخنزير أو دخول الكنيسة ففعل وسعه ذلك لقاعدة الضّرورات‏.‏ ولو أكرهوه على أن يقتل مسلماً لم يكن له ذلك، كما لا يرخّص له في أن يدلّ على ثغرةٍ ينفذ منها العدوّ إلى مقاتلتنا، ولا الاشتراك مع العدوّ في القتال عند كثيرٍ من العلماء، وأجاز ذلك الأوزاعيّ وغيره، ومنعه مالكٌ وابن القاسم‏.‏ وتفصيل ذلك موضعه مصطلح ‏(‏إكراهٌ‏)‏‏.‏

الأمان من الأسير وتأمينه

79 - لا يصحّ الأمان من الأسير عند الحنفيّة، لأنّ الأمان لا يقع منه بصفة النّظر منه للمسلمين، بل لنفسه حتّى يتخلّص منهم، ولأنّ الأسير خائفٌ على نفسه، إلاّ أنّه فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم، فينبغي أن يفي لهم كما يفون له، ولا يسرق شيئاً من أموالهم، لأنّه غير متّهمٍ في حقّ نفسه، وقد شرط أن يفي لهم، فيكون بمنزلة المستأمن في دارهم‏.‏ وهو ما قاله اللّيث‏.‏ ووافقهم كلٌّ من‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، إذا ما كان الأسير محبوساً أو مقيّداً، لأنّه مكرهٌ، وأعطى الشّافعيّة من أمّن آسره حكم المكره، وقالوا‏:‏ إنّ أمانه فاسدٌ‏.‏ أمّا إذا كان مطلقاً وغير مكرهٍ، فقد نصّ الشّافعيّة على أنّ أسير الدّار - وهو المطلق ببلاد الكفّار الممنوع من الخروج منها - يصحّ أمانه‏.‏ قال الماورديّ‏:‏ وإنّما يكون مؤمّنه آمناً بدارهم لا غير، إلاّ أن يصرّح بالأمان في غيرها‏.‏ وسئل أشهب عن رجلٍ شذّ عن عسكر المسلمين، فأسره العدوّ، فطلبهم المسلمون، فقال العدوّ للأسير المسلم‏:‏ أعطنا الأمان، فأعطاهم الأمان، فقال‏:‏ إذا كان أمّنهم، وهو آمنٌ على نفسه، فذلك جائزٌ، وإن كان أمّنهم، وهو خائفٌ على نفسه، فليس ذلك بجائزٍ، وقول الأسير في ذلك جائزٌ‏.‏

ويعلّل ابن قدامة لصحّة أمان الأسير إذا عقده غير مكرهٍ، بأنّه داخلٌ في عموم الخبر الّذي رواه مسلمٌ بسنده من أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ذمّة المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم‏.‏‏.‏‏.‏» كما أنّه مسلمٌ مكلّفٌ مختارٌ‏.‏

صلاة الأسير في السّفر، والانفلات، وما ينتهي به الأسر

80 - الأسير المسلم في أيدي الكفّار إن عزم على الفرار من الأسر عند التّمكّن من ذلك، وكان الكفّار أقاموا به في موضعٍ يريدون المقام فيه المدّة الّتي تعتبر إقامةً، ولا تقصر بعدها الصّلاة، لزمه أن يتمّ الصّلاة، لأنّه مقهورٌ في أيديهم، فيكون المعتبر في حقّه نيّتهم في السّفر والإقامة، لا نيّته‏.‏ وإن كان الأسير انفلت منهم، وهو مسافرٌ، فوطّن نفسه على إقامة شهرٍ في غارٍ أو غيره قصر الصّلاة، لأنّه محاربٌ لهم، فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة في حقّه، حتّى ينتهي إلى دار الإسلام‏.‏

وتفصيل ذلك موطنه مصطلح ‏(‏صلاة المسافر‏)‏‏.‏

81 - والأسر ينتهي بما يقرّر الإمام، من قتلٍ أو استرقاقٍ أو منٍّ أو فداءٍ بمالٍ، أو عن طريق تبادل الأسرى على ما سبق بيانه، كما ينتهي الأسر بموت الأسير قبل قرار الإمام فيه، وكذلك فإنّه قد ينتهي بفرار الأسير، يقول الكاسانيّ‏:‏ لو انفلت أسيرٌ قبل الإحراز بدار الإسلام والتحق بمنعتهم يعود حرّاً، وينتهي أسره، ولم يعد فيئاً، لأنّ حقّ أهل دار الإسلام لا يتأكّد إلاّ بالأخذ حقيقةً، ولم يوجد‏.‏

82 - ويصرّح الفقهاء بأنّه يجب على أسرى المسلمين الفرار إن أطاقوه، ولم يرج ظهور الإسلام ببقائهم، للخلوص من قهر الأسر، وقيّد بعضهم الوجوب بعدم التّمكّن من إظهار الدّين، لكن جاء في مطالب أولي النّهي‏:‏ وإن أسر مسلمٌ، فأطلق بشرط أن يقيم في دار الحرب مدّةً معيّنةً، ورضي بالشّرط لزمه الوفاء، وليس له أن يهرب لحديث‏:‏ «المؤمنون عند شروطهم» وإن أطلق بشرط أن يرجع إليهم لزمه الوفاء، إن كان قادراً على إظهار دينه، إلاّ المرأة فلا يحلّ لها الرّجوع‏.‏ واختار ابن رشدٍ - إذا ائتمن العدوّ الأسير طائعاً على ألاّ يهرب، ولا يخونهم - أنّه يهرب ولا يخونهم في أموالهم‏.‏

وأمّا إن ائتمنوه مكرهاً، أو لم يأتمنوه، فله أن يأخذ ما أمكنه من أموالهم، وله أن يهرب بنفسه‏.‏ وقال اللّخميّ‏:‏ إن عاهدوه على ألاّ يهرب فليوفّ بالعهد، فإن تبعه واحدٌ منهم أو أكثر بعد خروجه فليدفعهم حتماً إن حاربوه وكانوا مثليه فأقلّ، وإلاّ فندباً‏.‏